فضل أذكار الطريق | فضل جوهرة الكمال في مدح سيد الرجال

فضل جوهرة الكمال في مدح سيد الرجال

ثم انتقل رَحِمَهُ اللهُ تعالى إلى ما قصدَ ذكرَه هنا من فضل جوهرة الكمال في مدح سيد الرجال فقال :

جَوهرةُ الكَمالِ مِن إملاءِ

 

إمامِ الأرسال والأنبياءِ

عَلَى حبِيبِه الوليِّ العالِم

 

قُطبِ الورَى أحمَد نجلِ سالمِ

وبَعضُ فضلها تقـدَّمَ ومَن

 

لازَمَها سبْعاً فأكثر تَمَنْ

بأن يكونَ خَيرَ الأنبياءِ

 

يُحبُّه ومِن الأوليَاءِ

 

أشار بهذا إلى ما هو مصرَّح به في ''جواهر المعاني'' وغيره من الإجازات، بل هو مما بلغَ الآن حدَّ ا لتواتر القطعي بين جميع الأصحاب، وهو أن هذه الصلاة التي نحن بصدد ذكر فضلها هي من إملاء سيد الوجود على سيدنا ، وإنما قال الناظم) على حبيبه) لما ثبتَ عن الشيخ من أن النبي   قال له: أنت حبيبي، وكلُّ من أحبَّك حبيبي.

وقد مرَّ لنا الكلام في هذا، ووصفه بالعالم بعد الولي إشارةً إلى جمعه بين العلم والولاية على الوجه الذي انتهت إليه الكمالات شريعةً ممزوجة بالحقيقة، أتمَّ مزجٍ وأحسنه، فهو الوارثُ الأكبر للمقال والحال. ثم أخبرَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى بأن بعض فضل هذه الصلاة الشريفة تقدَّم، يعني في قوله: «ومن تلا جوهرة الكمال سبعاً» إلى آخر الأبيات الثلاثة المضمنة للخاصية العظمى وهي وجود النبي وكذا الخلفاء الأربعة مع الذاكر لها، ما دام يذكرُها من حين يبلغ السابعة منها إلى ما لا نهاية له من الأعداد.ثم أخبر أيضاً رَحِمَهُ اللهُ تعالى أن من فضلها الثابت عن الشيخ أن من لازَمَها سبعَ مرات في كلّ يوم يحبّه النبي محبةً خالصة، ولا يموتُ حتى يكون من الأولياء.

 

ثم قال النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

ومَرَّة تَعدِل تَسبيـحَ الـورَى

 

ثَلاثَ مراتٍ على مـا سُطِّـرا

ومَن يكنْ لازَمها سَبعاً لدى

 

مَنامِه يرى النَّبيّ أحمَـدا

صلى وسلمَ عليه الله

 

ما اشْتاقَ مـُؤمنّ إلـى لُقياهُ

وَآلهِ الشمْ المُطهَّـرين

 

وصَحبِه الغُرّ المحجَّلين

أراد بـ (الورى) العالم بأسره ملكياً وإنسياً وجنيّاً وغير ذلك، حسبما خرج به في ميدان الفضل والإفضال، وقوله: (على ما سطرا) يريد في ''جواهر المعاني'' وغيره، ويحتمل أن يكون راجعاً للورد، فيكون المراد «على ما سطرا» في تفسير الورى من أن معناه الخلائق أجمعون، أي فكأنه قال تسبيح الورى أي الخلائق أجمعين حسبما سطرا في تفسيره، وقوله: (لدى منامه) أي عند إرادته النوم، و(يرى) من الرؤيا الحلمية، وأخبر هنا أن من فضل هذه الصلاة الثابت أيضاً أن المرة الواحدة منها تعدلُ تسبيحَ العالم بالمعنى السابق بأسره ثلاثَ مرَّات:]ذَٰلِكَ فَضْلُ اُللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَآءُ ۚ وَاُللَّهُ ذُو اُلْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)[(الجُمُعَة: الآية 4)وراجع ما تقدَّم قريباً في جواب العياشي(1) لتلميذه الهروشي رحمهما الله تعالى لتعلم أن لهذا الفضل أصلاً معمولاً به عند المحققين من العلماء .

ثم أخبر رَحِمَهُ اللهُ تعالى أن من فضلها الثابت أيضاً أن من لازمَها سبعَ مرَّات عند النوم، يريدُ على طهارةٍ كاملة، ثم ينام على فراشٍ طاهرٍ كذلك فإنه يرى النبيْ في نومه اهـ. قال أخونا في الله تعالى وسيدنا،ترجمان المعارف،أبو الفضل سيدي عبيدة بن محمد الصغير في شرحه لهذه الصلاة الذي ترجمها بميدان الفضل والإفضال بعد حكايته لهذه الخاصية ما نصّه: ولا أقيِّد ذلك برؤية صورته الشريفة، لأنه  يظهرُ في صور الأولياء والصالحين من هذه الأمة اهـ بلفظه. وهذا الذي ذكره حفِظَه الله ووعاه صحيحٌ، إلا أنهم نصُّوا على أن رؤيته في غير صورته وهيئته التي كان عليها rفي هذه الدار يدخلها التعبير، بخلاف رؤيته على صورته الشريفة . وقد حدثني مراراً بعضُ الخاصة من أصحاب سيدنا الشيخ أخبره  أنه كان يستعملُ لرؤياه الصلاة التي كان الواسط المعظم سيدي محمد بن العربي يستعملُها للقيه عليه الصلاة والسلام، فكان يعني الوصيف المذكور إذا رأى النبيّ يقول له: أنا محمد بن عبد الله رسولُ الله . وذكر لي هذا الفاضل  رَحِمَهُ اللهُ  تعالى أن أصحاب سيدنا كانوا يميلون إلى التقييد لمثل هذا تثبتاً منهم خشية الكذب عليه . والوصيف المذكور كان مشهوراً بالخير معروفاً بالجود والاجتهاد في طاعة الله تعالى، اسمه سيدي الحاج بوجمعة، وقد تأخرتْ وفاتُه عن وفاة سيدنا بنحو العشرين سنة. وهذا الذي ذكرتُه عنه كان يحدث قَيْدَ حياة الشيخ ، وكم من واحد من هؤلاء الوصفان مماليك الشيخ ومماليك غيره ظهرَ عليهم آثارُ الفتح على يد الشيخ .

ومن فضل هذه الصلاة الشريفة الذي لم يذكره النَّاظمُ هنا، وأشارَ إليه فيما مرَّ عند ذكر اللوازم أن من ذَكَرها اثنتي عشرة مرةً وقال: هذه هدية مني إليك يا رسولَ الله، فكأنما زارَه في روضته الشريفة وزارَ أولياءَ الله تعالى والصالحين جمعاً من لدن آدم عليه السلام في وقته ذلك، يعني أنه يحصلُ له من الثواب والفضل مثل ما يحصلُ للزائِرِ للروضة الشريفة وجميع أولياء الله تعالى في كل عصر.

ثم لما جرى ذكر النبي في قوله: (يرى النبي أحمدا) أتى بالصلاة والسلام عليه وعلى آله وأصحابه   لتأكيد الأمر بها كلما ذكر.وقد قال بوجوبها عند ذكره جماعةً من العلماء منهم الطحاوي وجماعة من الحنفية والحليمي وجماعة من الشافعية وبه قال اللخمي من المالكية. وقال ابن العربي منهم أيضاً: إنه الأحْوطُ وأدَّى الصلاة والسلام باشتياق المؤمن إلى لقياه ، لأن اشتياقَ كلِّ مؤمن إليه لا ينقطع إلى الأبد. وفيه مع ذلك إشارةً إلى الترغيب في العمل على الخاصية المذكورة قبل، وذلك لإفادته أن من صفة المؤمن الكاملِ الإيمانِ الاشتياقُ إلى رؤيته عليهالصلاة والسلام. وبالتحقيق أن كلَّ مؤمن وإن كان في غاية الغفلة إذا علم أن الاشتياق إلى رؤيته من علامة الإيمان حَمَله ذلك على التعلُّق بهذه العلاقات بحسب قوة استعداده وضعفه، على أنك لا ترى والحمد لله تعالى مؤمناً إلا وهو يودُّ رؤيته ببذل جميع ما يملك حتى روحه التي بها حياته. هذا هو الأصلُ في كل مؤمن، وهو مصداقُ ما وَرَدَ في ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام : «يودُّ أحدُكُم أنْ لوْ رآني بجميعِ ما يمْلِكُ» الحديث.

نعم فللسالكين الصادقين في استعمال الأذكار المعروفة لخاصَّة رؤياه طريقتان:الأولى: الإحجام عند ذلك والتوقف فيه،لاكتنافِ الهيبة والخَجَل للواحد من أهل هذه الطريقة عند إرادته الإقدام على ذلك، وذلك لشدَّة نظره لنفسه بعين التحقير، فيرى أنه ليس أهلاً لأن يطلبَ رؤياه   مع كثرة تلطيخِه بالذنوب والمعايب اللازمة له، ويرى أن إقدامه على ذلك وهو على تلك الحال من سوء الأدب الذي يستوجبُ به المعطبَ، ويقول لنفسه عندما تدعوه لاستعمال شيء من تلك الأذكار: إن كنتِ صادقةً فيما تدَّعيه من الشوق إلى رؤيته ، فعليكِ بمتابعتهِ بقدْرِ استطاعتك وتصحيح التوبة من مخالفة شريعته بقدر الإمكان والصدق في ذلك كله في السر والإعلان، ثم بكثرة الصلاة على النبي في سائر الأوقات والأزمان على حدِّ ما قاله العارف بالله تعالى البوصيري(2) في داليته:

وتَزَوَّدِ التَّقْوى فإنْ لمْ تَسْتَطِعْ

 

فَمِنَ الصَّلاةِ على النبيِّ تزوَّدَا

وحينئدٍ أقدمي على ما أردتِ الإقدام عليه. وهذا ربما فاجأه الفتح في هذا المرمى ببركة أدبه ونظره بعين الحقرة لنفسه بمحْضِ الإفضال والإكرام، والأدب لا يأتي إلا بخير .

والطريقة الثانية: الإقدامُ على استعمال كل ما يقفُ عليه من ذلك، والسعي في كلِّ ما ذكروه في تحصيله بغاية الشوق والجد والاجتهاد، من غير نظر إلى تمييز وصف من الأوصاف في نفسه ولا في غيره، لكثرة ما غلبَ عليه من التَّوقان لبغيته العظمى مع اعتقاده أن من الله عليه بكشْفِ الحجاب بينه وبين حبيبه الأعظم لقد خصَّه من السعادة الكبرى بالحظ الأوفر الأفخم، على حدِّ ما قاله البوصيري في همزيته:

لَيْتَه خَصَّني برُؤْيَةِ وَجْهٍ

 

زَالَ عن كُلِّ مَنْ رآهُ الشَّقاءُ

وهذا جدير بأن يتفضّل عليه مولاه المجيب بفضله وكرمه ووعده الذي لا يخلف دعوة مَنْ دعاه.

وبالجملة فالكلُّ من أهل الطريقتين مشتاقٌ إلى رؤياه، ويودُّ بجميع ما يملكه لقياه. غير أن أهل الطريقة الأولى منعهم الحياءُ والخجل والحذر والوجل، من أن يكونواأهلاً للتعرُّض لذلك بأعمالهم الناقصة المشوبة بطلمات نفوسهم السيئة، التي هي في ميادين الخير على أعقابها ناكصة(3) ؛ وهذا الحال مفضٍ بصاحبه إلى موارد الرضى من الله تعالى والكرامة مع العافية واللامة. وأهلُ الطريقة الثانية غيَّبتهم المحبة الحالية عن الشعور بما هو منهم جملةً وتفصيلاً، ولم يجعلوا على غير فضل الله تعالى تعويلاً فجدُّوا حتى وَجَدوا، ووفُّوا الزراعة حقَّها فقرَّتْ أعينُهم بما حَصَدوا ]كُلاًّ نُمِدُّ هَٰؤُلآءِوَهَٰؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا(20)[(الإسرَاء: الآية 20). اللهمَّ إنِّي أسألك يا مولانا بجاهِ من عظَّمْتَ جاهَه على كلِّ جاه، وأعليته على كل عالٍ من خلقِك مراتب علاه، أن تصلي عليه وعلى آله صلاةً ترضيك وترضيه وأن تلهمنا بفضلِكَ الرشدَ والصوابَ، وتصحبنا اللطف الخفي في الحال والمآب، إنك أنتَ الله الكريم الوهاب، آمين آمينآمين، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

(تنبيه) أعمَّ الله نعمه علينا كما أعمّها على آبائنا في الدين، ووَهَب لنا من الإيمان ما يلحقنا بسببه بحزبه المفلحين، قال القسطلاني في ''المواهب اللدنية'': «رُؤِيت امرأةٌ مسرفةٌ على نفسِها بعد موتها، فقيل لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لي. قيل لها: بماذا؟ قالت: بمحبَّتي رسول الله وشهوتي النظر إليه، نُوديت: من اشْتهى النظر إلى حبيبنا نستحي أن نذلَّه بعتابِنا، بل نجمعُ بينه وبينَ من يحبُّه» اهـ





(1) العياشي : عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي، أبو سالم، فاضل من أهل فاس، نسبته إلى آية عياش (قبيلة من البربر تتاخم أرضه الصحراء، من أحواز سجلماسة) قام برحلة دوَّنها في كتابه «الرحلة العياشية»، وله كتب أخرى. مات سنة (1090هـ) .انظر اليواقيت : 178، وفهرس الفهارس: 211/2.

(2) البوصيري الشاعر، تقدمت ترجمته.

(3) ناكصة: راجعة إلى الوراء.