فضل أذكار الطريق | فضل الياقوتة الفريدة: صلاة الفاتح

فضل الياقوتة الفريدة: صلاة الفاتح

قال الناظم رحمه الله تعالى :

إمَّا صَلاة الفاتحِ الحُسنى الَّتي

 

يَرْعـونَ بالياقوتـةِ الفَريدة

فَفضلُها على مَراتبَ انْبسَـمْ

 

وجُلُّها عَنِ الخَلائقِ انْكتمْ

 

وصَفَ (صلاة الفاتح) بالحسنى لما اشتملت عليه من وجوهِ الحسنى والحسية والمعنوية التي لا تكاد تنحصر، ويكفي ما أبداه من ذلك في كتاب ''ميزاب الرحمة الربانية''، وقوله: (التي يدعون) إلخ، قد قدمنا أن الشيخ هو الذي سمَّاها بذلك، ووجه التسمية في غاية الوضوح، ومراتب الفضل المذكور سبع أو ثمان، وقوله: (وجلها) إلخ، إنما انكتم لأنه مما لا ينال إلا بالذوق والتعريف الإلَهي، ومن كان سبيلُه ذلك لا يفشيه من فتح عليه فيه إلا بإذنٍ لا غير.

وأشار النَّاظمُ بهذا إلى ما ذكره سيدنا  في فضل هذه الصلاة وهو أن لها من الفضل سبع مراتب أو ثمان مراتب، وأن الذي ذكر من فضلها هو جزء من المرتبة الأولى، وغير ذلك كلُّه مكتوم.

 

ثم قال رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

ومِن سِوَى المَكتومِ أن مَـن تَـلاَ

 

مِـنْ هذِهِ الصَّلاةِ عَشراً حصْلا

ما لَمْ يَحصِّلْه ولـيّ سـامٍ

 

قَـدراً وعاشَ ألفَ ألف عام

 

أشار بهذا إلى بعض فضل الياقوتة الفريدة، في مرتبتها الظاهرة، وهو أن سيدنا  سُئِل عن فضلها فقال: من ذكرها عشرَ مرَّاتٍ لو عاشَ العارف  ألف ألف سنة كان ذاكرها عشراً أكثر منه ثواباً، يعني العارف الذي لم يذكرها اهـ ذكره في ''الجامع'' وهو من باب تضعيف الأعمال بالأضعاف الكثيرة.

واعلم أن من المقرَّر عند العلماء في التضعيف أنه يكون تارةً باعتبار لفظه كاشتماله على جميع الأوصاف السلبية والذاتية والفعلية، ومثلوا ذلك بنحو: ذي الجلال والإكرام ونحوه، قالوا: ولا شك أن الثناء بالأتمِّ أبلغُ من الأخصِّ والخاص، وكاشتماله على ما يؤذن بالتضعيف نحو: «سُبْحان الله عَدَدَ خَلْقِه»(1) ونحو ذلك كقوله في هذه الصلاة حق قدره، وهو ظاهرٌ وخصوصاً على رأي من أخذ بظاهره عملاً على ما هو اللائق بالكرم، وقد تقدَّم بعضُ ما يوضِّحه، وتارةً يكون باعتبار الأشخاص فإنَّ عبادة أهل المراتب ليست كعبادة غيرهم في الفضل، وهم أيضاً متفاوتون بحسب تفاوتِ مراتبهم، فمنهم مَنْ يومُه كَليلةِ القدْرِ، ومنهم من يومُه بألفِ سنة، ومنهم من يومُه كيومٍ المعارجِ بخمسين ألف سنة قاله سيدنا ، وأشار إليه الشيخ زروق ، وكذا ابن عطاء الله.

وقد يعظَّم فضلُ الله تعالى على أهل المراتب فيسري سرُّ التضعيف في المذكورين لاتباعهم بسبب إذنهم لهم، فيحصلُ للمأذون له قسطٌ مما للآذن وإن لم يجاهدْ مجاهدته، وقد قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي : أنا تحملتُ التعبَ عن أتباعي، ومثله قول سيدنا في حق أصحابه. وهذا لهم من أجلي، وذلك لما خُصُّوا به من الفضل، وتارةً يكون باعتبار الأزمان، وتارةً باعتبار الأمكنة كالعمل في الحرمين الشريفين على ما ورد في ذلك.

وإذا عرفتَ هذا فاعلمْ أن هذه الصلاة الشريفة، أعني صلاة الفاتح لما أغلق، قد اشتملت من الوجوه التي تكون سبباً للضعف المذكور على ما لا يخفى، فإنها اشتملت على نداء الله تعالى بالاسم الجامع للذات والصفات والأفعال على ما مرَّ بيانه، وهو يتضمَّن الثناء عليه سبحانه بما هو أعمُّ وجوه الثناء، واشتملتْ من الثناء على حبيبه الأعظم ورسوله الأكرم على أبلغ الثناء وأعمّث المدح حسبما يفيده فيما يشير إلى معناها على جهة الاختصار مع ما اشتمل عليه قوله فيها: «حق قدره ومقداره العظيم»، وهذا باعتبار لفظها. وأما باعتبار الأشخاص فيكفي ما مرَّ عن الشيخ من الفضائل التي أعطاها الله تعالى لأهل هذه الطريق من المحبوبية المفاضة عليهم من الحضرة المحمدية عليه الصلاة والسلام مع ما انضاف إلى ذلك من المزايا العظام، والخصوصيات الجسام، هذا مع حصول الإذن في الصلاة المذكورة من أستاذ هذه الطريقة الذي هو الختم الأكبر المحمدي، وهو عن سيد الوجود بلا واسطةٍ حسبما تقدَّم بيانه. وأما باعتبار الأزمان فمن حيثيةِ كونهم في آخر الأزمان الذي وَردَ الخبرُ بأن القابضَ فيه على دِينهِ كالقابض على الجمر(2)، وأن للعامل من أهل هذا الزمان أجرَ الخمسين منا أو منهم، قال : «مِنكُم لانَّكُم تجدُونَ على الخيرِ أعْواناً وهم لا يجدونَ عليه أعواناً» فتأمل ما ذكرناه ولا تظنَّ أننا أردْنا به التسور على إدراك ما انبهم عنا من سبب التضعيف المذكور، بل الذي نعتقد وندين الله به أن الله تعالى تفضَّل بذلك بمحْضِ جُودهِ وكرمه، إما بلا سبب أو بسبب لا يدركه أمثالُنا إلا بتعريف من الله تعالى، وإنَّما ذكرنا شيئاً مما يتعقّل في ذلك ظاهراً ليستأنس به أمثالنا الضعفاء فيما يرونه هنا من فضل هذه الصلاة لا غير، والله تعالى أعلم.

ثم قال:

وعَدمُ الإحباطِ  للَّذِي فَعلْ

 

ما هُو في سِواهَا يُحبِطُ العَملْ

 

أشار بهذا إلى أن من فضائل هذه الصلاة الشريفة وخصوصيتها السامية المنيفة أنه إذا صدر من المصلي بها بعضُ ما يحبطُ ما يحبطُ الأعمال، فإنَّها لا تحبطُ هي في جملة ما يحبط بفضل الله تعالى. ذكره في ''الجامع'' عن سيدنا .

ثم قال رَحِمَهُ اللهُ تعالى :

ومرَّةً واحِدةً تُقرأ مِن

 

هذا تُكفِّرُ الذُّنوبَ وتزن

مِنْ كُلِّ تَسبيحٍ وذِكرٍ وَقَعا

 

سِتة آلافٍ ومِنْ كُلْ دُعا

أشار بهذا إلى ما ثبت عن سيدنا الشيخ من أن المرة الواحدة من صلاة الفاتح لما أغلق الخ تكفّر ذنوبَ العبيدِ ؛ ولفظه في الرسالة الأولى من رسائله ووصاياه: واعلموا أن الذنوبَ في هذا الزمان لا قدرة لأحدٍ على الانفصالِ عنها، فإنها تنصبُّ على الناس كالمطر الغزير، ولكن أكثِرُوا من مكفِّرات الذنوب، وآكدُ ذلك صلاةُ الفاتح لما أغلق، فإنها لا تتركُ من الذنوب شاذةً ولا فاذةً(3)، هذا معنى قوله (مرةً واحدة) إلخ، وقوله: (تزن من كل تسبيح) إلخ أشارَ به إلى ما ثبتَ عنه  أيضاً من أن المرة الواحدة من هذه الصلاة  الشريفة تعدلُ من كل تسبيح وقع في الكون، ومن كل ذكر ومن كل دعاءٍ كبير أو صغير ستة آلاف مرة، فاقدر إذا قدر ما أعدَّ الله للمصلي بهذه الصلاة، فإن جميعَ ما في الكون جامدِه ومتحرِّكه ذرة ذرة يسبِّح بحمد الله تعالى كما قال تعالى: ]وَإِنْ مِّنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ[(الإسراء: الآية 44) الآية.

ثم قال رَحِمَهُ اللهُ تعالى :

ومرَّةً مِنها بسِتْ مِائةِ

 

ألفِ مِن الواقِعِ في البريَّةِ

مِنْ صَلواتِهمْ لِوقتِ الذكـرِ

 

وهِـي تُضاعفُ بِهذا الْقررِ

أشار به إلى ما في ''الجواهر'' و ''الجامع'' من بيان تضعيف ثواب صلاة الفاتح لما أغلق، وهي أن المرة الأولى منها إذا أتى بها المصلي تُضاعَف له بستمائة ألف صلاة من صلاة كل ملك وإنس وجن من أول خلْقِهم إلى وقتِ تلفُّظ الذاكر بها، والمرة الثانيةُ مثلُها وتكتب له الأولى بستمائة ألف صلاة، وهكذا إلى انقطاع ذكر الذاكر لها بالموت، وهذا أمرٌ يبهر العقول]وَاُللَّهُ ذُو الْفَضْلِ اُلْعَظِيمِ[(البَقَرَة: الآية 105) فقوله: (البرية) أراد الملائكة، والآدميين والجن، وأما غيرهم من المخلوقات فهو داخلٌ في قوله: (من كل تسبيح وذكر وقع في الكون) إلخ ذكره في الجامع ويدخل في البرية المصلي نفسه، إذ صلاته من جملة الواقع في البرية من الصلوات، كما يدخل في الصلاة الواقعة في البرية صلاة الفاتح إلخ، فيضاعف للمصلي بها جميع الصلوات التي وقعت في البرية حتى صلاة الفاتح نفسها بجميع ما اشتملت عليه من التضعيف في كل مرة من وقت صلاة المصلين بها إلى وقت التلفظ بها ستمائة ألف مرة، وهو معنى قوله: (وهي تضاعفُ بهذا القدر)، وهذا من باب مضاعفةِ أفراد الثواب المجازى به على الحسنة المفعولة، وقد قال العلماء بجوازه. وقد نقلَ بعض شراح الرسالة عن القرطبي في شرح مسلم في حديث : «مَنْ مَنْ قالَ لا إلَه إلاّ الله وحْدَهُ لا شرِيكَ له»(4) الحديث ما هو صريحٌ في ذلك. ثم قال: ومن هذا المعنى ما قاله الحطاب إن الصلاة في جماعةٍ بمائتين وخمسين صلاةً، فإن كانت في مسجد رسولا لله كانتْ بمائتي ألفٍ وخمسين ألفاً]وَاُللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَنْ يَشَآءُ ۗ[(البَقَرة : الآية 261) وقد بسطنا الكلامَ في بيان هذا التضعيف بأكثرَ من هذا في تقييد لنا في بيان فضل الياقوتة الفريدة وهو بزاوية عين ماضي، ولم يبقَ بأيدينا نظيرٌ منه، ولم نيأسْ من روح الله تعالى أن يجمعنا بنسحةٍ منه بمنّه وطوله، وذكرناه ليبحث عنه من عسى أن تتشوَّفَ إليه نفسه من الإخوان، والله المستعان.

ثم قال رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

سَعادةُ الدَّارينِ ضامِنتُها

 

فـي الْيومِ مَرَّةً مُـداوَمتُها

ومَن يُلازمْ مرَّةً في كلْ يَومِ

 

مِنْها يموتُ مُسلِماً مِنْ غيرِ لَومِ

أشار بهذا إلى ما ثبتَ عن الشيخ  في كلام قال فيه: «المازمةُ على الصلاة عليه بركتُها تدركُ الرجلَ وأولاده وأولادَ أولاده». ثم قال:«وأما صلاة الفاتح لما أغلق إلخ فهي ضامنةً لخير الدنيا والآخرة لمن التزمَ دوامَها». ثم بيَّن  خير الآخرة بقوله: «من داوَمَ على الفاتح لما أغلق يموتُ على الإيمان قطعاً، ولو بالمداومة عليها في كل يوم مرةً» باختصار. ووَقَع في بعض النسخ من هذا النظم من النساخ في هذا المحل فليتنبَّه له. وقد ذكر الشعراني  أذكاراً من لازَمَها يموتُ مسلماً برواية عن الخضر عليه السلام في ذلك، فينبغي أن يستعملَ المؤمنُ جميعَ ما يقفُ عليه من ذلك مع كثرة اللجأ والاضطرار إلى الله تعالى فيه. 

ثم قال رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

وفَضلُها يَحصلُ مَعْ شَرطيـنِ

 

مِن ذاك إذنُ الشَّيـخِدُونَ مَينِ

ثُمْ اعتِقادُ أنّها قـد بَـررْتْ

 

مِن حَضرة الغَيبِ لِمَنْ لهُ سَرتْ

الضمير في (فضلها) لصلاة الفاتح المتكلَّم فيها، والمراد بالفضل في البيت الفضلُ الخاص الذي تلقَّاه سيدنا الشيخ تفصيلاً من الحضرة المحمدية، ومنه ما تقدَّم ذكره للناظم في الأبيات السابقة.

وأشار بهذا إلى ما ثبت عن سيدنا  بأن الفضل المذكور، يعني الخاص لا العام، الذي هو مذكور في ''روضة الجيوب'' عن القطب سيدي محمد البكري  لا يحصلُ لذاكرها إلا بشرطين: الأول الإذنُ الصحيح من الشيخ ، إذ هو  المأذونُ له من الحضرة المحمدية في إبرازه. والشرط الثاني اعتقاد المصلي أنها ليستْ من تأليف البشر، وذلك لأن القطب البكري المذكور توجَّه إلى الله تعالى مدةً يسألُه أن يمنحه صلاةَ على النبي   فيها سرُّ جميع الصلوات، فنزلتْ عليه مكتوبةً بقلم القدرةِ في صحيفةٍ من نور، وهو معنى قوله: (قد برزت من حضرة الغيب) إلى آخره.

وفي التعبير بـ «برزت» إشارة إلى انكشاف الحجاب للقطب المذكور عما هو من عالم الملكوت والغيب الذي من شأنه عادةً  أن لا يدرَك بالحسِّ، فهو من باب خرْق العادة كرامةً لأولياء الله تعالى.

وفي قوله: (سرت) إشارة إلى أن هذا من الأسرار التي لا يطَّلع عليها الناسُ حتى تظهرَ حيث أظهرها الله تعالى، كما أن الساري لا يطَّلع عليه الناسُ حتى يصبحَ بالمكان الذي يصبح به، فافهم.

وقوله: (دون مين) أراد به وصف الإذن بالصحَّة كما في عبارة سيدنا الشيخ   فتحصَّل أن الفضل الخاصَّ الذي تلقاه الشيخ  من الحضرة المحمدية لا يحصلُ إلا مع الإذن الصحيح من الشيخ ، ولو بواسطةٍ أو وسائط، وكذلك مع اعتقاد المصلي أنها ليست من تأليف  القطب البكري أو لا غيره، وأنها وردت من الحضرة القدسية مكتوبةً بقلم القدرة في صحيفة نورانية.

ثم إن بروز الأمرِ من الحضرة القدسية للولي المتمكِّن بالكتابة معروف، وقد عدُّوه من أقسام كيفية الإلهام للأولياء، يعني الإلهام الذي يثلج له الصدرُ، وهو معمولٌ به عند المحققين، وهو، أعني الإلهام، وإن كان المعنى الأصلي هو معنى يجده الولي في سرِّه يثلج له صدره من غير تعلُّق حسِّ ولا خيالٍ من الولي في ذلك، فقد عدُّوا من أقسامه أيضاً ما يكون متلقًّى بالخيال في عالم الخيال وهي المبشرات، ومنه ما يكون خيالاً في حسِّ على ذي حس، وهو الذي يسمونه الواقعة، ومنه ما يجدونه مكتوباً في ورقة مثلاً، قالوا: وهو الذي كان يقعُ لأبي عبد الله قضيب البان وغيره.

قال في ''اليواقيت والجواهر'' بعد ذكره لنحو ما تقدم ما نصّه: «فإن قلت: فما علامة كون تلك الكتابة التي في الورقة من عند الله تعالى حتى يجوز للوليِّ عملُ ما بها؟ فالجواب: أن علامتها كما قال الشيخ محيي الدين في الباب 315 من ''فتوحاته المكية'': أن تلك الكتابة تقرأ من كلِّ ناحية على السواء لا تتغيَّر كلما قلبت الورقة انقلبت الكتابة لانقلابها. قال: قال الشيخ محيي الدِّين: وقد رأيتُ ورقةً نزلتْ على فقير في المطافِ بعتقه من النار على هذه الصفة، فلما رآها الناسُ علِموا أنها ليست من كتابة المخلوقين» اهـ الغرض منه.

وفي ''الجيش الكبير''ما نصّه: «فائدة: قال الهروشي: سألتُ شيخنا العياشي رَحِمَهُ اللهُ تعالى عن الثواب المذكور في بعض فضائل الأعمال المروي عن غير النبي   كقولهم: من صلى على النبيّ بالصلاة الفلانية كذا فهي بمثابة فدية، أو الصلاة الفلانية تعدلُ عشرة آلاف أو غير ذلك، فأجابَ بأن ذلك مما يلهِمُه الله تعالى لأوليائه، يرونه مكتوباً بقلم القدرةِ على حجرِ أو ورق أو شجر أو يسمعون الهاتف(5)، أو يتلقّونه عن النبيّ في النوم أو  اليقظة». قلت: أو تخاطبُ به عوالمهم اللطيفة، وهو أصلٌ متينٌ من الأصول العتمدة عندهم، دليلُه من السنة قوله في الصحيح: «إنه كانَ فيمَنْ قَبْلَكُم محدثُون»، وفي رواية: «مكلَّمونَ مِنْ غيرِ أن يكونُوا أنبياء وإن كانوا في أمَّتي فعُمَرُ منهم» أو كما قال عليه الصَّلاة والسلام. فإذا عرفت هذا عرفت أن الذي وقع للقطب البكري في هذه الصلاة من هذا الحيز، فهي، يعني الصلاة الشريفة المذكورة، وردتْ من حضرة الحق تبارك وتعالى على طريق التعليم وفقَ ما قالوه في فاتحة الكتاب، يعني من أنها وردتْ على طريق التعليم لنا، فافهم ذلك، وبه تفهم ما وقَع في تعبير صاحب ''الجامع" من قوله الشرط الثاني اعتقاد أنها من كلام الله تعالى كالأحاديث القدسية، وهذه العبارة هي الدائرة على ألسنة الأصحاب اليوم، وعبارة الناظم التي شرحنا عليها هي الموافقة لعبارة ''جواهر المعاني''، ولذلك آثرَ التعبيرَ بها على التعبير بغيرها، وإن كان المآل واحداً، والله تعالى أعلم.

ثم قال رَحِمَهُ اللهُ تعالى :

ومرَّةً مِنَ الجَحيـمِ فِديـهْ

 

يـومَ القِيامةِ بِغَيرِ مِريهْ

أشار بهذا إلى ما ذكروه عن القطب البكري من قوله: فمن قرأها مرة ودخلَ النار فليقبضْ صاحبُها بين يدي الله تعالى، وهو في ''روضة الجيوب''، فهذا من الفضل العام الذي ذكره فيها غيرُ سيدنا الشيخ ، ولهذا أردَفَه النَّاظم بقوله :

وذَا بلاَ اشْتراطِ ما تَقدَّما

 

سُبحانَ مَن فضَّلها وعظَّما

أشار بـ(ذا) إلى ما ذكره من كون المرة الواحدة منها فديةٌ من النار، وأخير أنه حاصلٌ بفضل الله تعالى لكلِّ من صلى بها بنيةِ ذلك مصدِّقاً.

وأشار بقوله: (سبحان من فضلها) إلخ، إلى أن هذا الفضل وهو كونها فدية من النار من أعظم ما يطلب ويرغب فيه ويعترف بالمنة العظيمة لواهبه ومُسْدِيه(6) حيث كان سبحانه يمنُّ على العبد بعتقِ رقبته من النار بسبب ذكره للمرَّة ا لواحدة من هذه الصلاة العظيمة المقدار.

ثم أتى رَحِمَهُ اللهُ تعالى بما هو كالتحصيل لما ذكره من فضل هذه الصلاة تفصيلاً على طريق الإجمال، فقال رَحِمَهُ اللهُ تعالى :

ومَا علَى النبيِّ صلَّى أحـدُ

 

بمثلِها سُمعْ ذَا ذَا الأوحدُ

الضمير في (مثلها( لصلاة الفاتح لما أغلق، والإشارة الأولى إلى قوله: (وما على النبي) إلى آخر الجملة و(ذا) الثانية راجعة إلى الشيخ أوحد الأولياء علماً وحالاً ومقاماً. وقوله: (سمع) يعني من النبي ، ففيه حذفُ المتعلّق للعلم به.

وأشار بهذا إلى ما في ''جواهر المعاني'' وغيره من قول سيدنا :قال لي : ما صلى عليّ أحدٌ بمثلِ صلاة الفاتح لما أغلق، فقد ظهر من هذا ومن جميع ما تقدَّم من فضلها أن الله تعالى استجاب دعوة القطب البكري في سؤاله صلاة على النبي فيها سرُّ جميع الصلوات، وقد صرَّح سيدنا بذلك فقال: إن جميع ما في الصَّلوات من الخواصِّ وغيرها يحصلُ لذاكر الفاتح لما أغلق إلخ.

[ تنبيه]





(1) كذلك تقدم ص : 407.

(2) انظر ما رواه الترميذي في (الفتن : 73)، وأحمد: 390/2.

(3) الكلمة الفاذَّة : الشاذَّة.

(4) في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله rقال : «من قال : «لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، ركتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي. ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه. ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرةً حُطمت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر». كذلك رواه مالك في الموطأ في (القرآن:21)، والترمذي في (الدعوات: 59).

(5) الهاتف : صوت يسمع دون أن يُرى شخص الصائح.

(6) مسديه: اسم فاعل من الفعل «أسدى» إليه معروفاً: أعطى

تنبيه


قد عرفت أن الصلاة أهدِيَتْ إلى القطب البكري على ما تقدَّم بيانُه وأن الفضل الخاصّ لم يتلقَّه القطبُ المذكور، وإنَّما تلقَّاه سيدنا الشيخ  ، وبسبب هذا وقعَ السؤالُ لمقيِّده عفا الله عنه من بعض الإخوان الصادقين حَفِظه الله تعالى عن الحكمة في عدم إظهار هذا الفضل على يدِ من نزلتْ عليه وبرزتْ بسبب توجُّهه إلى الله تعالى، فأجابه سامحه الله تعالى: بأنه يمكن أن تكون الحكمة في ذلك، والله أعلم تقرير فضلها إجمالاً في عصر القطب البكري، وفيما بعده حتى يكون ذلك كالتمهيد لقبول تفاصيله عند وجود من سبق في علم الله تعالى أنه صاحبُ إظهاره، وأنه المخصوصُ بالتربية بهذه الصلاة لمواقيتها لزمان وجوده الذي هو آخرُ الأزمان لما عليه أهله من ضعف الاستعدادات وقلَّة الرغب بالجد والاجتهاد في عظيم الإفادات ومن فضلها الإجمالي هو كونها فيها سرُّ جميع الصلوات حسبما عرف والله تعالى أعلم وأحكم، وهو المسؤول بفضله أن يتولَّى  غفران ذنوبنا وستر عيوبنا بجاه السبب الأعظم لكل خير وسعادة سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
×