ما يلزم أخذ الورد | مما يلتحقُ باللوازم المتقدمة
مما يلتحقُ باللوازم المتقدمة اتخاذُ المريد المتمسِّك بهذا الورد لضبطِ عددِه سبحة يستعين بها على ذلك
ثم قال:
(واتَّخِـذِ السُّبحـة للإعانـةِ |
|
وعملَ الإمامِ ذي الدِّيانة) |
( السبحة)،( للإعانة)، ( وعمل الإمام)، ( ذي الديانة).
يقول:ومما يلتحقُ باللوازم المتقدمة اتخاذُ المريد المتمسِّك بهذا الورد لضبطِ عددِه سبحة يستعين بها على ذلك، وتذكِّره ما هو بصددِه، وذلك لتواطؤ السلف والخلف عليها فيما مضى وحضر من الأزمان، وخصوصاً إمام الطريقة أبا القاسم الجنيد بن محمد سيد هذه الطائفة إمام أهل هذا الشأن، وخصَّ الإمام الجنيد بالذكر في مثل هذا المقام لمزيَّةِ تقديم طريقِه على غيرها عند المشايخ الكُمَّل والعلماء الأعلام، قالوا: وهي أقدمُ الطرق كلها، لتحريرها على الكتاب والسنة تحريرَ الذهب، ومن هنا كان كل من سَلَكها نجا.
وكان يقول: علمنا هذا مؤيدٌ بالكتاب والسنة اهـ. وفي بعض الروايات عنه «مشيد» بدل «مؤيد» وقد تقدّم لنا في المقدمة شرح ذلك.
وغرضُ الناظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى فيما أشار إليه في هذا البيت الإخبارُ بأن اتِّخاذَ السبحة عليه عملُ سيدنا الشيخ ، وكذا سائر أتباعه وأهلُ طريقه، وهو من عمل أئمَّة السلفِ، وعليه عملُ إمام الطائفة الجنيد . وفائدته ظاهرةٌ وهي الإعانة على ضبط عددِ الوِرْد وعلى نهوضِ الهمَّةِ للذكر، لأنها مذكِّرة لذلك ومنبِّهة عليه، فقوله: «وعمل الإمام» إلخ البيت أتى به كالدليل، لأن اتخاذَ السبحة من علم أهل الدين والسنة، ولبيان أن اتخاذَها له أصلٌ.
وقد ألفَ الشيخ جلال الدين السيوطي رَحِمَهُ اللهُ تعالى ورضي عنه في أصل اتخاذها جزءاً سمَّاه «المنحة في السبحة» تتبَّع فيه ما ورَدَ فيها من الأحاديث والآثار. منها حديث الطبراني عن صفيَّة أم المؤمنين(1): «دخَلَ عليَّ النبيّ وبينَ يدي أربعةُ آلاف نوىً أسبِّحُ بهِنَّ» الحديث. ومنها حديث الحاكم عن سعد بن أبي وقاص(2): «أنه دخَلَ مع النبيّ على امرأة بين يدَيْها نوىً أو حصى تسبِّح بهنَّ»(3) الحديث، ومنها ما في معجم الصحابة للبغوي وتاريخ ابن عساكر عن أبي صفية(4) مولى النبي : «أنه كان يوضَعُ له نطْعٌ (5)ويجاءُ بزِنبيل(6) فيه حصىً فيسبِّح به إلى نصفِ النهار، ثم يرفعُ فإذا صلى الأولى أتى به فيسبِّح حتى يمسي». وذكر عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يسبِّح بالحصى أو النوى، وعن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب: أنها كانت تسبِّح بخيط معقود في يدها، وعن أبي الدَّرداء أنه كان له نوىً من العجوة في كيسٍ، فإذا صلى الغداة أخرجَهُنَّ واحدةً واحدة يسبِّح بهنَّ، وعن أبي هريرة أنه كان له كيسٌ فيه حصىً أو نوى يسبِّح به، وذُكر عن مولانا علي كرم الله وجهه أنه قال: نِعْمَ الذكرُ السبحة. وذُكِر عن زاذان أنه قال: أخذتُ من أم يعفور تسابيحَ، فلما أتيت عليّاً قال: اردُدْ على أم يعفور تسابيحها، إلى غير ذلك بما يعرف بمراجعة المؤلف المذكور، وقال فيه: وقد رأيت في ذلك، يعني اتخاذ السبحة، حديثاً مسلسلاً ولم يذكره.
وذكر الشيخ أبو الفضل العقباني في جواب له مسلسل للقاضي عياض بسنده إلى أبي عمران بن علوان عن الجنيد بسنده إلى الحسن البصري كل واحد يقول: رأيتُ فلاناً وفي يده سبحة فسألتُه عما سألتني عنه إلى الحسن البصري، فقال للسائل: يا بني هذا شيءٌ استعملناه في البداية ما كنا لنترُكه في النهاية، إنِّي أحبُّ أن أذكرَ الله يقلبي ولساني ويدي اهـ انظر«الدرر المكنونة في نوازل مازونة» وممن روى هذا المسلسلَ أيضاً خاتمة العلماء المحققين الشيخ أبو العباس الهلالي رَحِمَهُ اللهُ تعالى، فقد رأيتُ في فهرسته روايته له عن شيخه العجيمي بسنده إلى أبي الحسن المالكي، عن الجنيد، عن السري، عن معروف الكرخي(7) عن محمد المكي يقول كلٌّ واحد: سألتُ أستاذي فلاناً وفي يده سبحة إلخ. قال محمد المكي: رأيت أستاذي الحسن البصري وفي يده سبحة فقلت: يا أستاذي مع عِظَمِ شأنك وحسن عبادتك وأنت مع السبحة، فقال: هذا شيء كنا استعملناه في البدايات، إلى آخر ما تقدَّم في سلسلة القاضي عياض.
قال الهلالي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وبهذا الأثر يستدلُّ على أن السبحة كانت على عهد الصحابة ، لأن الحسن البصري كما عند ابن خلكان وُلد في خلافة سيدنا عمر لسنتين بقيتا منها، فتكونُ بدايته والصحابة متوافرون اهـ. يريد وقد صرَّح أنه اتخذها في بدايته. قال السيوطي بعد نقله لما تقدَّم عنه: فلو لم يكن في اتخاذ السبحةِ إلا موافقة هؤلاء السادات والدخول في سلكهم لصارتْ بهذا الاعتبار من أهمِّ الأمور وآكدها اهـ الغرض. ولا شك أنها آلةٌ مباركة شريفةٌ، كيف وهي سبب موصِلٌ إلى دوام ذكر الله تعالى وقد شُوهد فيها، ولها بركاتٌ عظيمة. منها ما في المنحة عن أبي مسلم الخولاني أنه كان له تسبيحةٌ، فقام ليلةً والسبحةُ في يده قال: فاستدارت السبحةُ والتفَّتْ على ذراعه وهي تقول: سبحانَكَ يا منبتَ النباتِ، ويا دائمَ الثباتِ، قال: هلمِّي يا أم سلمة فانظري إلى أعجبِ الأعاجيب، قال: فجاءتْ أم سلمة والسبحة تدورُ وتسبِّح، فلما جلست سكتَتْ، قال السيوطي رَحِمَهُ اللهُ تعالى. ذكره أبو القاسم عبد الله بن الحسن الطبري في كتاب «الكرامات».
وفي المنحة أيضاً أن سبحة الشيخ أبي الوفاء التي أعطاها الشيخ عبد القادر الجيلاني كانت إذا وضَعها على الأرض تدورُ وحدَها حبةً حبة. وفيها أيضاً ما نصّه: أخبرني من أثِقُ بقوله أنه كان مع قافلة في دربِ بيت المقدس، فقامَ عليه سرية عرب فجرَّدوا أهل القافلةِ كلَّهم وجردوني معهم، فلما أخذوا عمامتي سقطت سبحةٌ من رأسي فلما رأوها قالوا: هذا صاحبُ سبحةٍ فردُّوا علىّ ما كان أُخِذ لي وانصرفتُ سالماً منهم، قال: فانظرْ يا أخي إلى هذه الآلة المباركة الزاهرة، ما جمع فيها من خير الدنيا والآخرة اهـ. ولهذا تجد الصادقين من أهل الطريق يتحفَّظون بها عن القاذورات وكلِّ ما فيه امتهان لها ويتبرَّكون بها، فيضعونها على الآلام بقَصْدِ الاستشفاء بها. وقد رأيتُ الناظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى يعظِّمها أشدَّ التعظيم ويصونُها عن الأقذارِ ووضعها بمحلٍّ يكون مظنةً للامتهان حتى إنه كان إذا أصابَ بيده بصاقاً أو نخامةً يغسلُها لأجلِ أن يأخذَ بها السبحة، وربما كلم في ذلك فيجيب بما حاصله ما تقدَّم من عمل الصادقين من أهل الطريق، ثم بعد ذلك رأيت كلاماً للشيخ أبي الفضل العقباني رَحِمَهُ اللهُ تعالى صرَّح فيه بذلك ونصّه: وقد بلغني أن هؤلاء الذاكرين بهذه السبحة يتحفَّضون بها عن القذرِ وعن كلِّ ما يظن به أذىً، تكريماً وتشريفاً لها، وإن فعلَهم لسداد، لأن ما أعدّ لذِكْر الله تعالى من تكبير وتسبيح وتحميد وتمجيد والصلاة على النبي جديرٌ بأن يُصان عن الأخباث والأدران، وأن يتبرَّك بلمْسِه ويستشفى به ويرفَع غاية، قال: ومن ثم وضَعَها سحنون(8) في عنقِه إلى آخر كلامه، فليراجعه من أراد ذلك في «النوازل المازونية» وقد ذكر فيه قبل هذا الكلام عن مدارك القاضي عياض أن بعضهم قال: دخلتُ على سحنون وفي عنقه تسبيح يسبح به قال: وأنت تعلمُ من سحنون علماً وورعاً، وهل يقدِمُ على هذا إلا بدليل اهـ.
قلت: فيؤخذ من هذا أن جعْلَ السبحة في العنق لا بأسَ به، بل هو حسن، لما فيه من رفْع هذه الآلة المباركة حسبما صرَّح به العقباني من فعل الإمام سحنون ، وعلى هذا فيُطْلبُ حسبما نصَّ عليه بعض من شرح المباحثَ الأصلية من فعل ذلك إخفاؤها وجعلُها تحت الثياب تجافياً عن المباهاة والتظاهُر بدعوى الفقر وأسباب الشهرة، وهذه طريقةُ المحقِّقين من أهل الطريق، وأما جعلُها في العنق فوقَ الثياب ظاهراً فهو جارٍ على طريقة أهل الزيِّ والشهرة كالقلندرية ومن يشاكِلُهم من طوائف الصوفية، وقد تقدَّم بعضُ ما يشير إلى هذا المعنى في المقدمة، وهذه الطريقة الأخيرة ليس عليها عملُ أهل طريقتنا فلا ينبغي أن يقرَّ على ذلك من فعله، لأن ربح المريد إنما هو في متابعة أستاذه متابعة الظلِّ شاخِصه، وليسلم لأهل الطرق ما أخذوه عن أساتيذهم، وبالجملة فطريقُنا أن لا نجعل السبحة في العنق إلا بقصْدِ رفْعها وصونها تكريماً وتشريعاً لها، وعليه يحمل عملُ أصحابنا الذين بالصحراء ومن يتابعهم على ذلك، وماعدا ذلك فليس من طريقنا في شيء والله الموفق.
وحاصل ما أشارت إليه هذه الأنقالُ التي شرحنا بها قول الناظم وعمل الإمام ذي الديانة أنَّ اتخاذَ السبحة من شِعار أهل الدين، وطريقِ الأئمَّة المهتدين، وعملِ السلف الصالح من الصحابة والتابعين أجمعين. قال في «المنحة»: ولم ينقلْ عن أحد من السلف ولا من الخلف المنعُ من عدِّ الذكْرِ بالسبحة، بل كان أكثرُهم يعدُّونَه بها ولا يرون ذلك مكروهاً اهـ.
وأما ما نُقِلَ عن بعضِهم من أن عدَّ الذكر بالأنامل أفضلُ للحديث الوارد في ذلك عن ابن عمر فهو مقيَّد بما إذا أمن من الغلط في العدد. وقد قيل: إن أكثرَ الذكر المعدود الذي جاءت به السنة الشريفة لا ينحصرُ بالأنامل غالباً، ولو أمكن حصرُه لكان الاشتغالُ بذلك يذهبُ الخشوع والسبحة يؤمن معها ذهاب الخشوع، فهي معينةٌ على الحضور أيضاً. ويرحم الله القائل فيها ونسبه في المنحة لعماد الدين المنوي رَحِمَهُ اللهُ.
ومنْظومةُ الشَّملِ يلْهو بها الـ |
|
ـلَّبيب فتجمَعُ مِنْ هِمَّتهْ |
إذا ذَكَر الله جلَّ اسْمُه |
|
عليها تفرَّقَ هَيْبَتِهْ |
***
(2) هو سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف القرشي الزهري، أبو إسحاق، صحابي أمير، فاتح العراق ومدائن كسرى، وأحد الستة الذين عينهم عمر للخلافة، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ويقال له فارس الإسلام. أسلم وهو ابن (17 سنة) وشهد بدراً وافتتح القادسية ونزل أرض الكوفة وابتنى بها داراً وظل والياً عليها مدة عمر بن الخطاب. مات سنة (55). انظر التهذيب: 3/483، وحلية الأولياء 1/92، وتهذيب ابن عساكر: 6/93، وطبقات ابن سعد: 6/6، والإصابة: ت (3187)، وأسد الغابة.
(4) انظر أسد الغابة: 5/175 وفيه «كان من المهاجرين».
(5) النِّطع: بساط من الجلد.
(6) الزنبيل: القُفَّة، وعاء.
(7) هو معروف بن فيروز الكرخي، أبو محفوظ، أحد أعلام الزهاد والمتصوفين. كان من موالي الإمام علي الرضى بن موسى الكاظم. ولد في كرخ بغداد، ونشأ وتوفي ببغداد. اشتهر بالصلاح، وقصده الناس للتبرك به حتى كان الإمام أحمد بن حنبل في جملة من يختلف إليه. مات سنة (200 هـ). انظر طبقات الصوفية: 83، ووفيات الأعيان: 2/104، وصفة الصفوة: 2/179، وتاريخ بغداد: 13/199.
(8) سحنون: هو عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، الملقب بسحنون، قاض فقيه، انتهت إليه رياسة العلم في المغرب. كان زاهداً لا يهاب سلطاناً في حق يقوله، أصله شامي من حمص، ومولده في القيروان. ولي ا لقضاء بها سنة (234 هـ) واستمر إلى أن مات سنة (240 هـ). وكان رفيع القدر، عفيفاً، أبي النفس. انظر الوفيات: 1/291، وقضاة الأندلس: 28، ومعالم الإيمان: 2/49.
وعمل الإمام
والمراد بالإمام في قوله: (وعمل الإمام) الجنيد رضي الله عنه، لما نقله السيوطي عن ابن خلكان من أنه رأى في يده، يعني إمام الطريقة الجنيد بن محمد رَحِمَهُ اللهُتعالى، سبحةً، فقيل له: أنتَ مع شَرَفك تأخذُ السبحة؟ قال: طريق وصلتُ به إلى ربِّي لا أفارقُه اهــ
ذي الديانة
وقوله: (ذي الديانة) وصفٌ للإمام وصَفَه به لشدة تديُّنه، ومتابعته للسنة، ووقوفه مع الكتاب والسنة، وتحرير طريقه على الشريعة تحرير الجوهر.