ما يلزم أخذ الورد | إذا تحمَّل و التزم أن لا يزورَ واحداً من الأولياء
إذا تحمَّل و التزم أن لا يزورَ واحداً من الأولياء
الأحياء أو الأموات بأسرهم ما عدا أصحابَ النبي
و بدأ من اللوازم بأهمِّها الذي لا يتأتى الدخولُ في الطريق بدونه و يستمرُّ لزومُه بعد الدخول أيضاً، فإن أخلَّ به وجَبَ التجديدُ للتقيد بالعهد لانفصام العقدة بالإخلال به.
فقال:
يُعطى لِكلّ مسلـم تَحمَّـلا |
|
عَدمُ زَوْر الأولياءِ مُسَجّلا |
سَـواءٌ الأمواتُ والأحْيـاءُ |
|
وتَخْرُجُ الصَّحـبُ والأنبيـاءُ |
لا بأسَ أنْ يزورَ بعضُ الفُقَرا |
|
بَعْضاً وذالكَ حَسنّ إذا جَـرَى |
وكلُّ مَن أخذَ عَن شيخ وَزارْ |
|
سِـواهُ لم يَنفعْ بِه ولا المُزار |
ونَحنُ مَا لنا بـزَوْرِهم غَـرَضْ |
|
لَما نـهانَا عَنْـهُ خَيـر مَن فَـرضْ |
ومعْ ذلك لنَا مِنْه عِوضْ |
|
صَحيـحُ الأسْـنادِ بـلا شَـكٍّ عَـرض |
فمَن تَلاَ جَوهرةَ الكَمالِ |
|
فـي عَـددِنا وبها ذا التَّالي |
لحَضرة النَّبيّ ذي المَعالي |
|
زيارةً لسَيِّر الأرسـالِ |
كانتْ لهُ تَعدلُ زوارُ الرُّسلِ |
|
والأنبياءِ وكـلّ قُطبٍ ووَلي |
لأنـهُ كأنـه قَـد زَارا |
|
نبيّاً فَـيا لَـهُ فَـخَـارا |
فافْعَل فِـداً لَكْ أبـي وأمّـِي |
|
ما قُلتَه تَظْفرْ بخَيـرِ جَمـي |
وليـسَ ذا مِـنّا تَكبُّـراً علَـى |
|
سـاداتِـنا ذوي المـزايـا والعُـلا |
كلا جنَابهِـمْ لَـدَيْنا مُحـترَمْ |
|
لِـمَ لا وهُـمْ أهـل المَعالـي والكَـرمْ |
( يعطى) ـ ( المسلم) ـ ( تحملا) ـ ( الزور) ـ ( مسجلا) ـ ( سواء الأموات والأحياء) ـ ( تخرج) ـ ( خير من فرض) ـ ( العوض) ـ ( عرض) ـ ( لحضرة النبي) ـ ( الظفر) ـ ( الجم) ـ ( التكبر) ـ ( المزايا) ـ ( العلا)، و باقي الألفاظ واضح.
يقول: إنما يعطى ويلقَّن هذا الورد المحمديّ الشريف لمن رغب في فضله الباهر و سرِّه المنيف، إذا تحمَّل و التزم أن لا يزورَ واحداً من الأولياء الأحياء أو الأموات بأسرهم ما عدا أصحابَ النبي المخصوصين بفضيلة السبق التي لا مطمعَ فيها لغيرهم، و أحرى الأنبياء الكرام عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام، و كذا زيارةُ إخوانهم في الطريق بل أمرُها عندنا حسنٌ مندوب إليه على التحقيق. و قد قيل: "إن من أخَذَ عن شيخ و زارَ مَنْ عداه لم ينتفِعْ بالأول و لا بالثاني فيما قصده و نواه". هذا نحن على كلِّ حال ما لنا في زيارتهم من نفْعٍ لقصر وجهتنا بالإذن الخاصِّ على سيد الأنبياء و الأرسال مع ما عوضنا من ذلك من فضيلة جوهرة الكمال، فإنَّ من قرأها في عدد مبلغه اثنتا عشرة مرةً بشروطها...إلخ المعلومة ناوياً زيارة سيِّد الرجالِ، حصل له مثل ما يحصلُ لمن زاره في روضته الشريفة، و زارَ جميع الأنبياء و المرسلين و الأقطاب و الأولياء و سائر أهل الكمال.
فاعملْ على هذا السرِّ الباهرِ فدتْكَ أبي و أمي أيها الأخ الصادق تظفرْ بالفضل العظيم و الخير العميم الفائق. و ليس منع الزيارة في طريقتنا هذه المحمدية تكبراً على ساداتنا الأولياء الكرام أهل المراتب العلية، و المقامات الفاخرة السنية كلا، و معاذ الله أن يصدرَ ذلك منا في جانبهم الأعزِّ الرفيع، بل هو عندنا محترمٌ غاية الاحترام، عزيز منيع، و الله حسيبُ من يشنع علينا(1) هجرانهم و قِلاهم(2)، و يشيع أننا نستهزئُ بهم أو بمن والاهُم.
هذا ما تيسَّر هنا في سبك هذه الأبيات الثلاثة عشر، و القصدُ إنما هو الإقتفاء لأنفاس هذا السيد الجليل و التبرُّك بما لَهُ من الأثر.
و قد عقد فيها مسألة منعِ المريد من زيارة غير أستاذه و إمامه كما عليه جلُّ جهابذة هذا الشأن، و جمهور أعلامه، إلا أنه رتَّب الكلامَ فيها على حسب ما سمح به النظمُ، و أبرزه في قوالب الردِّ على المنتقد المولع بالتشنيع على أهل الله تعالى، و الأخذ عليه بالكظم.
و ترتيب الكلام فيها باعتبارِ ما ينفعُ المريد الصادق الذي أهَّله الله تعالى للإنخراط في هذا السلك النوراني الفائق، أن يقال: إن مما اختصَّتْ به هذه الطريقة المحمدية، المنوطة بأنوار العناية الربانية و الأسرار الرحمانية الوهبية، أن جعلَ الله تعالى فتح أستاذِها و إمامها الأعظم على يد القدوةِ العظمى، أستاذِ الكلِّ و إمام الكل و عين مادة مددِ الكل ، و ذلك بعد أن أنفدَ الوُسْعَ في السلوك على طرائق المشايخ الكاملين، و لم يألُ جَهْداً في التعلّق بالأولياء المقربين الواصلين، فلم يأنسْ من جانب تلك الجوانب لما ارتقيه ناراً و لم يشمَّ من تلك الآفاق برقاً للوصول على ما رامه، و لا استنشقَ من شميمِ تلك الأندية رَنْداً زلا عراراً(3). و ما ذاك إلا لما أرادته به الغيرةُ الإلَهية، و اختارتْه له سوابق المشيئة الربانية، من غرفةِ من منبع الإمداد الإختصاصية، و تضلُّعه من منهل الأسرار الإصطفائية، بطريق المشاهدة العيانية، و المشافهة الكفاحية.
إذا اصْطَفَاكَ لأمْرٍ هيَّأَتْكَ لَهُ |
|
يَدُ العنايةِ حتَّى تَبْلُغَ الأرَبا |
و من المتفق عليه الشائع المعلومُ، أن من استغنى بالإتصال حيث أمكنَ عن الإنفصال غير مرتَّب و لا ملوم، بإجماع العقلاء. بل لا شكَّ أن من قيَّض الله له من يسلك به على هذا السبيل الأقوم، حتى أوقفه بهذا الباب الأعظم، و أناخ به بهذا الجناب الأفخم، ثم تطلع له بالإلتفات إلى غيره من الأبواب، روماً للدخول منه إلى حضرة معرفة ربِّ الأرباب فقد أساءَ الأدب، و تعرَّض لحلول الغضب، و ربما خشي عليه سلبُ كلِّ شيء حتى نور الإيمان، و أعظم به و العياذ بالله تعالى من وبال و خسران.
فإذا عرفتَ موقع الإشارة من هذا الكلام ظهرَ لك الوجهُ الأجلى و السبب الأقوى، في نهي سيدنا لأصحابه عن الإلتفات إلى غيره من الأولياء الكرام والمشايخ العظام، و أن الإلتفات عنه إنما هو التفات عن جنابه الأعظم عليه الصلاة و السلام. و إذا كان من المقرَّر عند أهل الطريق أن الإلتفات عن المشايخ مطلقاً من أكبر القواطع عنهم على التحقيق، فما بالكَ بالإلتفاتِ عن حَضْرتهِ التي هي مجمع الأنوار و منبع الأسرار، بل هي المركزُ الذي عليه مدار جميع المقامات و الأحوال و الكعبة التي بها مطافُ أرواحِ المحبِّين و المحبوبين في سائر حضرات الكمال.
ثم إذا ظهرَ لك أن الوَجْه والسبب في اشتراطنا على المريد من أهل طريقنا ترك الإلتفات إلى الغير، هو ما اختصَّت به هذه الطريقة المحمدية عن غيرها من سابقة الفضل و الخير بما أحازته من النسبة الخاصة بها لسيد الوجود ، على ما تقدَّم إيضاحُه في المقدمة من أنها محمديةٌ بالوجْهِ الأخصِّ لا بالأعم.
فلنتبعْ ذلك بما يفيد توجيه منع الزيارة و النهي عن الإلتفات عند القوم، حتى يعلم أن مانع ذلك مطلقاً لا عتب عليه في بساط التربية الخاصة و لا لوم، فنقول و من الله تعالى نرجو التسديد في المقول:
الزيارة في اللغة: القصدُ إلى المزورِ في محلِّه. و هي الإصطلاح: قصدُ المزور إكراماً له و تأنيساً، و منها زيارة الإخوان بعضهم بعضاً. و قد تقدَّم بعض ما يتعلَّق بها في المقدمة، و سيأتي بعض ذلك قريباً أيضاً إن شاء الله تعالى.
و منها زيارة القبور مطلقاً، و هي مرغَّب فيها لما فيها من صلاح القلب بشرط الإشتغال بالإعتبار و التأمل و التفكر في أحوال الآخرة، و السلامة من الوقوع في شيء مما يخالف الشريعة الطاهرة. و الكلام فيها مبسوط في كتب الفقه، و ليس القول فيها و لا فيما قبلها من غرضنا في هذا المحل، و إنما كلامنا هنا في زيارة الأولياء، أعني الأكابر الذين يعتقد فيهم و يتعلق بهم. و حقيقتها قصد الولي للإنتفاع به و الإستمداد منه، و هذه هي التي منع منها المريد في بساط التربية الكاملة لتحقق المضرة له بها فيما هو بصدده، و ذلك لأنهم نصوا على أن "المريد مهما مالَ عن قدوته بظاهره أو باطنه و لو لمحة فإن ذلك وبال عليه و نقصان، و أن صحبته لا تصفو له و لا يستعد باطنه لسراية حال القدوة" اهـ انظر "بغية الطالب" للشاذلي.ومن كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: "ما سامحَ مريده في الإجتماع بغيره إلا حصلَ له تردُّد في أي الشيخين أعلى من الآخر حتى يتلمذ له، وإذا حصل له ذلك رفضه قلب الإثنين، فلم ينتفِعْ بأحد منهما، لأن شرط الإنتفاع جزمَ التلميذ بأنه لا يخرج من دائرة شيخه حتى يحصل له الكمال" اهـ.
وفيما قيده في "الذهب الإبريز" من إملاء شيخه القطب سيدي عبد العزيز على قول الشريشي رَحِمَهُ اللهُتعالى في "رائيته": "ولا تقدمنَّ قبل اعتقادك..."إلى آخر البيتين ما نصّه:"أي ولا تقدمن على شيخ بقصْدِ الدخول في محبته حتى تعتقد أنه من أهل التربية، وأنه لا أحد أولى بها منه في زمانه". قال: "وإنما وجب عليه ذلك، لأن الشيخ الذي يرى من مريده الإلتفات إلى شيخ غيره يقطعُ عنه المادة، والمريدُ الذي يدخل في صحبة شيخه وهو يرى أن في الوجود شيخاً مثل شيخه أو أكمل يبقى متشوقاً لذلك الأكمل في اعتقاده، فيراه شيخه متشوِّقاً إلى غيره فيقطع عنه المادة، فلا يكون بالأول ولا بالثاني". قال: "وقد رأينا مثل هذا في زماننا كثيراً والله يكون لنا ولياً ونصيراً". وقد رأيت تصريح هذا القطب الكبير بقطع المادة عن المريد بسبب التفاته وتشوفه إلى غير شيخه، وأعظم بقطع المادة مضرة ووبالاً على المريد.
ومثل هذا ما في شرح "الرائية" للفاسي رَحِمَهُ اللهُتعالى، فإنه قال فيه على قوله: «فإن رقيب الالتفات»... إلخ:"أي أن مراقبتك لغير شيخك والتفاتك إلى ذلك الغير يقطع عنك السراية المحبوبة أي المدد الساري إليك من شيخك، حيث كنت مجموعاً بكليتك عليه قبلَ مراقبتك الإلتفات إلى الغير.
قال الشيخ زروق: "و لا تلتفت عنه، و لو رأيتَ من هو أعلى منه، فتُحْرَم البركة من الأول و الثاني". قال: "و لذا كان المشايخ يمنعون أصحابَهم من صحبةِ غيرهم، بل و من زيارتهم، و هذا مما ينكره المتوسِّمون الجاهلون بأحوال أهل الله" اهـ المراد منه. و فيه التصريحُ بانقطاع المددِ من الشيخ عن مريده بسبب التفاته إلى غيره. و هذه القصيدة أعني "الرائية" التي منها هذا البيت، قال فيها صاحب "إثمد العينين": "هي حجةٌ عند أهل الطريق، و لم يزل المشايخ يحضون عليها و يوصون تلامذتهم بالعمل بها، و تسمَّى بـ "سرائر الأنوار و أنوار السرائر" قاله المسناوي اهـ بنقل صاحب "الجيش" رَحِمَهُ اللهُتعالى.
و من تأمل هذا البيت رآه في غاية الحسن و البلاغة لتشبيهه فيه المدد الساري من الشيخ إلى المريد بالمحبوب، و المريد بالمحب، و الإلتفات بالرقيب الذي يكدر على المحب صفو مشروبه، و يسعى دائماً فيما يعوقه عن الإتصال بمرغوبه، و الظفر بمحبوبه. و في إفراغه الكلام على هذه المسألة في قالب هذا التشبيه العجيب، و إتيانه على هذا الأسلوب الغريب إشارةٌ لطيفة إلى أن هذا الشرط في الطريق من آكَدِ ما يهتمُّ به السالك الأريب.
فإذا عرفتَ من كلام هؤلاء السادات الذين هم لا محالة من أفراد أئمة هذا الشأن و أعلامه ما يحصلُ من المضرَّة للمريد بسبب الْتفاتِه عن قدوته و إمامه عرفت الوجْه في منْعِ المشايخ الكاملين لأصحابهم من زيارة غيرهم من العارفين الواصلين، و عرفت خطأ المنكر عليهم في ذلك، و ما وَقَع فيه و العياذ بالله، من نسبة أكابر الرجال إلى المنافسة و الحسد، مع اعتقاده أنه على الحقِّ و هم على الضلال، و هلْ هذا إلا محضُ سوءِ ظنٍّ بمنصبهم الرفيع، و وقيعة في جانبهم المنيع.و قد ذكر الشعراني في "طبقاتـ"ـه عن بعض رجالها أنه كان يقول: "من وقع في أولياء الله تعالى ابتلاه الله بانعقادِ لسانه عن النطق بالشهادتين" اهـ. اللهمَّ إنَّا نسألك العافية من كلِّ بليَّةٍ بفضلك و كَرَمك يا ربّنا، و لو أن المنكِر تثبَّتَ و علم أن أهلَ الله تعالى منزَّهون عن رذيلة اتباع الهوى، و أن منعَهُم لتلامذتهم من صحبة غيرهم، و زيارته لمصلحةٍ محققة عندهم لهم في ذلك لسلم من سوء الظنِّ بهم و الوقيعة في أعراضهم. و كان سيدي علي الخوّاص يقول: "إذا رأيتم أحداً من المشايخ تغيَّر على من زار من أتباعه أحداً من أقرانه فاحملوه على أنه ما تغيَّر عليه إلا لمصلحته، كأن اطلع من طريق كشفه على أن فتحه لا يكون إلا على يديه، فأظهر له التكدُّرَ ليلازمه مصلحة له لا لعلَّة أخرى من حظوظ النفوس" اهـ.
ثم إن مما استأنس به المشايخ المانعون لأصحابهم من زيارة غيره في أخْذِهم العهدَ على المريد بذلك قوله : «لاَ يُؤمِنْ أَحَدُكُم حتَّى أكُونَ أحبَّ إلَيْهِ مِنْ أهْلِه و وَلَدِه و النَّاسِ أجْمَعِين»(4). و من المعلوم عند كلِّ من له أدنى ذوق في علوم الرجال أن المحبة الصادقة لا تقبل الشركة بحال.
و في "البحر المورود": "أخذ علينا العهود أن لا نأخذ على فقيرٍ بالسمع و الطاعة لما نأمره به من الخير، إلاّ إن كنا نعلم يقيناً أنه لا يقدمُ علينا في المحبة أحداً من الخلق مطلقاً، حتى أهلَه و ولده وراثة نبوية لا استقلالاً. و اعلم أنه لولا علمُ رسول الله أن لمحبة الناصح مدخلاً في حصول الهداية والإنقياد بسرعة دون بطء ما قاله: «لاَ يُؤمِنْ أحدُكم حتَّى أكونَ أحبَّ إليه...» الحديث. و من المعلوم أن جميعَ الدعاة إلى الله تعالى في هذه الأمة إنَّما هم نوَّابٌ له ، و ذلك ليحصلَ للمريد كمالُ الإنقياد، و يعتقد في شيخه أنه أشفق عليه من نفسه، كما كان النبيُّ، قال تعالى:[النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِاُلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۖ] (الأحزَاب:الآية6)" اهـ الغرض منه هنا بلفظه.و في قوله: «وراثة نبوية لا استقلالاً» نفي لما ينسبه الجاهلون إلى المشايخ الذين يأخذون العهْدَ على المريدين بهذا الشرط من المنافسة و اتباع الهوى في ذلك، وغير خافٍ أن المحبة الكاملة التي هذا وصفُها لا تخلص للمحبِّ في محبوبه حتى يستغرقَ فيها استغراقاً يستحيل معه خطور غير محبوبه في باله، فضلاً عن الإلتفات و التشوف له، و هذا أمرٌ ضروري في المحبة الكاملة. و لا شكَّ أن المريد إذا استغرق في محبة شيخه الإستغراق الموصوفَ لا يقدِرُ أن يلتفت إلى غيره، و كيف يلتفتُ إلى من لا يخطرُ بباله و لا يتصوَّر في وهْمِه و خياله، فمن لازمَ الإتِّصافَ بهذه المحبة التجرُّد عن كل علاقة، و التجرد عن العلائق كلها من آكدِ الشروط في طريق أهل الله تعالى. قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في "الرسالة": "و ما لم يتجرَّد المريدُ عن كل علاقة فلا يجوز لشيخه أن يلقِّنه شيئاً من الأذكار" اهـ.
و في "البحر المورود" نقلاً عن بعض أركان الطريق الجنيدية ما نصّه: "السابع ربْطُ القلب بالشيخ بالإعتقاد و الإستمداد على وصف التسليم و المحبة و التحكيم، فيكون اعتقادُه أن هذا المظهر هو الذي عينه الحقُّ سبحانه للإفاضة عليه، و أنه لا يحصل له الفيضُ إلا بواسطته دون غيره، و لو كانت الدنيا مملوءة بالمشايخ، و متى ما يكون في باطن المريد تطلع إلى غير شيخه لم يفتحْ باطنه إلى الحضرة الواحدية، فالإنسانُ في الجهة و له بدنٌ و روح، و الله تعالى منزَّةٌ عن الجهة، فحكمته اقتضت الإستفاضة ممن في الجهة عن الفياض الحقِّ الذي ليس في الجهة، و ذلك أنه سبحانه و تعالى عين للبدن الإنساني المركَّب من الكثرات الكثيرة جهةً واحدة يكون من تلك الجهة توجُّهه إلى الله، و تلك الجهة هي نورانية رسول الله في عالم الأرواح، فكما لا يقبلُ الصلاة إلا بالتوجُّه إلى الكعبة كذلك لا يحصلُ التوجُّه إلى الله تعالى إلا باتباع رسول الله، و التسليم و ربْطِ القلب بنبوّته، و أنه هو الواسطة بينه و بين الله دون غيره من الأنبياء، و أنهم و إن كانوا أنبياءَ الله تعالى و كلُّهم على الحق، و لكنْ لا يحصلُ من الله فيضٌ إلا من ارتباط القلب بمحمد، فيتوجّه البدنُ إلى الجهة الواحدة، و توجه الروح إلى الجهة الواحدة حصَلَ للإنسان استعدادٌ للإفاضة عليه من الحضرة الواحدة. و من هنا يعرف أن المناسبة بين المفيض والمستفيض فيما يتعلَّق بالاستفاضة شرط، و قد وَرَد في بعض الأحاديث على ما أثبتَ المشايخ في كتبهم أن الشيخ في قومه كالنبيّ في أمته، فلا بد للمريد أن يتوجَّه إلى شيخه بربْطِ قلبه معه، و يتحقَّق أن الفيض لا يجيء إلا بواسطته و إن كان الأولياء كلُّهم هادين مهتدين كلُّهم و يدعو لهم، لكن استمداده الخاص و استفاضته تكونُ من روحانية شيخه وحده، و يعلم أن استمدادَه من شيخه استمدادٌ من النبي، فإن شيخَه متعلِّق مستمِدٌ من شيخه، و شيخه من شيخه أيضاً، و هكذا إلى رسول الله، فهو مستمدٌّ بالحقيقة من رسول الله و هو من الحقِّ جلّ و علا: [سُنَّةَ اُللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اُللَّهِ تَبْدِيلاً(23)](الفَتْح: الآية23) فربْطُ القلبِ بالشيخ أصلٌ كبيرٌ في الإستفاضة، بل هو أصلُ الأصول، و لهذا قال المشايخ برعاية هذا الشرط" اهـ.و لنذكر شيئاً من عباراتهم وأقوالهم الدالَّة على تأكيدهم على رعاية هذا الشرط:
و من كلام الشيخ الكبير سيدي إبراهيم الدسوقي
و هذه العباراتُ السنيةُ من هؤلاء السادات الكبار أهل المراتب العَلِيَّة كلّها دلائلُ قطعية، و براهينُ جلية، على أن رعاية هذا الشرط عنهم من أهمِّ المهِمَّات، و آكدِها في طريق التربية. و من هنا يعلم أن المشايخ الذين يسدون على المريدين هذا الباب، قد سَلَكوا في نصحهم و إرشادِهم لهم جادَّة الصواب، و كيف لا و هم في جميع حركاتهم و سكناتهم على هدىً من ربِّهم و بينة و نور، عاملون في كل ذلك على ما يتلقَّونه عن الحضرة القدسية، من طريق الإلهامات الصحيحة، التي تثلج لها الصدور، و منهم من يتلقَّى ذلك في اليقظة أو المنام، عن أستاذ الأسانيد و سيد السادات بأسرهم عليه الصلاة و السلام.
و من الأول ما ذَكَره في "ممتع الأسماع" عن الشيخ الكبير العارف الشهير سيدي محمد بن سليمان الجزولي صاحب "دلائل الخيرات" من قوله: "قيل لي: "قلْ لأصحابك لا تُذْنبوا بالأسرارِ"، فقلت: "و"ما ذنب الأسرار؟" فقيل لي: "الإلتفات"، فقلت: "الإلتفاتُ عمَّن؟" فقيل لي: "الإلتفات عنك" اهـ.
و من الثاني ما ثبت عن سيدنا من أمرِه له يقظةً أن ينهى أصحابه عن زيارة غير الأنبياء عليهم الصلاة و السلام، و غير الصحابة الكرام، أجمعين.
و ما حكي عن القطب الجزولي في قوله: "لا تذنبوا بالأسرار" تصريحٌ بأن المريدين يؤاخذون بأمورٍ تحدث في سرهم، وإنما تسمَّى ذنوباً في حقِّهم. فإن الأسرار في كلامه جمع سِرّ، والمراد به هنا باطن الإنسان. ومن تلك الذنوب في حق المريدين المتقيدين بعهود الشيوخ الكاملين الإلتفات، والتشوُّف والتطلع بالقلب والسر. ومنها انقباضُ قلبِ المريد من ظهور بشرية الشيخ والعياذ بالله تعالى. ومنها غير ذلك مما لسنا بصدد بسْطِ القول فيه في هذا المحل. وأعظمُ الذنوب الإلتفاتُ لغير شيخِه لما فيه من صورة المكر الخفيِّ بالمريد، فإنه لا يظنُّ أنه يبلغ به ذلك فيسترسل فيه، ولهذا اعتنى المشايخ بالتحذير منه والتنبيه عليه، وخصوصاً لمن تفرَّسوا فيه النجابة وأنه من المرادين بحمل سرِّهم، فإنهم لا يسامحونه في ذلك أصلاً.و من أعجب الأمور في هذا الباب ما ذكره الشيخ الإمام المتفنِّن أبو زيد سيدي عبد الرحمٰن ابن شيخ الإسلام سيدي عبد القادر الفاسي رضي الله عنهما في كتابه "ابتهاج القلوب" عن الشيخ الشهير العارف بالله سيدي محمد بن عبد الله الشهيربابن معن الأندلسي أنه منع بعض مريديه من مجالسة أخيه العارف بالله سيدي عبد الرحمٰن، و ذلك حين ظهرتْ على أخيه المذكور آثارُ الفتح، و أنه أعني الشيخ أبا المحاسن قال لذلك المريد: "يا فلان رُدَّ روحَك لجهةٍ واحدة، خوفاً عليه من الشتات و جمعاً له عن الإلتفات، و راجع "ابتهاج القلوب" إن شئت، و هذا مع كون أخيه العارف بالله معه في دائرةٍ واحدة، تجمعهما طريقةٌ واحدة و سلسلة واحدة، بحيث لا يكونُ الإلتفاتُ عن أحدهما التفاتاً عن الآخر. و لهذا قلتُ في هذه الحكاية إنها من أعجب الأمور في هذا الباب، فافهمْ. فتحصل من مجموع ما ذكرناه عن هؤلاء الأعلام، أن تشوُّفَ المريد لغير شيخِه و التفاته إليه مُضِرٌّ به إضراراً يفضي به إلى انقطاعِه عما هو البغيةُ و المرام، فما بالك بما إذا انظمَّ لذلك أعمال الحركة الظاهرة بالسعي و نقلِ الأقدام. و به يعرَفُ أن لا لومَ على أحدٍ من أهل الكمال في نهيه أصحابه عن زيارة من عداه من الرجال، و يعرف أيضاً أن المنكر عليهم في ذلك قد عرضَ نفسَه، بسوءِ ظنِّه بهم و نسبته إياهم إلى الضلال، لعقوبة الله مولاهم الحق الشديد المحال، اللهمَّ سلِّمْ سلم، بفضلِك و كرمك يا ربّنا.
و ملخَّص هذا الذي أوردناه هنا في هذه المسألة أن زيارة الأولياء، بمعنى قصْدِهم للإنتفاع بهم والإستمداد منهم، ممنوعةٌ في طريقتنا هذه المحمدية.
- أما أولاً فلِما اختصَّتْ به من نسبتها بالوجْهِ الأخصِّ إليه حسبما تقدَّم بيانه، فيكون الالتفاتُ عن أستاذها التفاتاً عن حضرة سيد الوجود . و الملتفتُ عن حضرته لا يجدُ باباً يدخلُ منه، و إذ كان كما ذكَره الشيخ جسوس رَحِمَهُ اللهُ تعالى من الأدب عند بعض العارفين في حقِّ من زار وليّاً من أولياء الله تعالى: "أي قصَدَه للإستمداد منه أن يستحضِرَ في استمدادِه منه استمدادَه من حضرته ، فيكون في الحقيقة زائراً له ومستمدّاً من حضرته الشريفة، زادها الله عزّاً و شرفاً. فكيف يصحُّ لمن أُخِذ عليه العهد بالإستمداد من حضرته أن يلتفتَ إلى غيرها، و إن فعلَ فما وجْهُ العذر عنده في ذلك؟، و ما المخلَّص له مما أوقَعَ نفسَه فيه من سوء الأدب المفضي إلى دَرْكِ الشقاءِ و المهالك؟، أعاذنا الله من بلائه بمنِّه.
- و أما ثانياً فلأنَّ الإنتفاع بالشيخ مشروطٌ في حقِّ المريد بربْطِ القلب به بكمال المحبة و التسليم، على الحدِّ الذي تقدَّم ذكرُه في نصوص الكمل من الشيوخ، أهل التمكين و الرسوخ، فربْطُ القلب بالمحبة الكاملة هو الذي يُطوى به البعدُ بين حقيقة المريد وحقيقة شيخه وتُقْطَعُ المسافات، ولا تتمُّ للمريد المحبةُ الكاملة في شيخه إلا يقطْعِ عقباتِ الإرادات والالتفاتات على الحدِّ الذي أفادَه ما تقدَّم للأئمة في ذلك من جليِّ العبارات وسنيِّ الإشارات.
و إنَّما أطلْتُ النفسَ في هذه المسألة أداءً للنصيحة الواجبة لإخواننا المتقيدين بهذا العهد المحمدي، المنخرطين في هذا السلك الأحمدي، حتى يظهرَ توجيه المنْعِ من الزيارة بالمعنى السابق لكلِّ واحد منهم، فيكونُ على بيّْنةٍ من أمرِه، و على بصيرةٍ فيما يدعو إليه إن كان مستتبِعاً لغيره، فيُقبِل على شأنه غاية الإقبال، و يرفضُ عنه ما أولعَ به بعض من لا حقيقة عنده في هذا المحال، من الخرافات الباطلة، و التأويلات البعيدة، التي لا طائلَ تحتها إلا التشدُّق بشقاشق المقال(5).
ثم إن من تمام النصيحة للإخوان في الله تعالى أن يعلموا أن الممنوعَ عندنا هو قصْدُ الولي للإنتفاع به و الإستمداد منه لا غير، و ليحْذَروا أن يفضيَ بهم الحالُ إلى الإستهانة و الإستهزاء بالأولياء و الصَّالحين أهلِ الفضل و الخير، فإنَّ وبالَ ذلك عظيمٌ، و العياذ بالله، و مرتعُه وخيم.و قد قال سيدنا و نفعنا ببركاته في رسالة التحدُّث بالنعم المشهورة بين أتباعه، بعد أن عدَّد فيها بعضَ ما أنعم الله به عليه من الخصوصيات، و بعضَ فضائل أصحابه ما نصّه: "و مع هذا كلِّه فلسْنا نستهزىءُ بحُرْمة ساداتنا الأولياءِ ، و لا نتهاونُ بتعظيمهم، فعظَّموا حرمة الأولياء الأحياء و الأموات، فإنَّ من عظَّم حرمَتَهم عظَّم الله حرمته، و من أهانهم أذلَّه الله و غضِبَ عليه، فلا تستهينوا بحرمة الأولياء" اهـ .
و كفى بقوله: «فإن من عظَّم حرمتهم...» إلخ تأكيداً على تعظيمهم و احترامهم، و تحذيراً من الإستهزاء بهم، و عدم مراعاة حقوق مقامهم. و قوله في حق من أهان العباد المكرمين: «أذله الله وغضب عليه» يحتمل أنه إخبارٌ، و يحتمل أنه إنشاءٌ، فعلى كلٍّ فهو صريحٌ في أن إهانتهم و الإستخفاف بأقدارهم من أسباب الطرْدِ في طريقه ، و قد شُوهد مصداقُه في بعض من ابتُلي بذلك عياذاً بالله تعالى. فقد أخبرنا بعض العلماء الفضلاء من أصحابه عن بعض الطلبة أنه وَرَد عليه من بلده إلى فاس، فأخَذَ عنه و لقَّنه بعض الأسرار، فرَجَع إلى بلده و هو على مسيرة نحو السبعة الأيام من فاس، فاختلى للذكر الذي لقَّنه إياه، فاستحْلى ما فتح به خلوتِه، فزادَ على المدَّة التي حدَّ له الشيخ من الأيام فحلَّ به أمرٌ كادَ أن يكون سببَ حَتْفه في خُلْوته، فلم يشعرْ أن وجَدَ الشيخ في الخلوةِ فمدَّ يدَه إليه، و أقامه من صرعته، و قال له: "ما حَمَلك على مجاوزة الحد؟" أو كلاماً من هذا المعنى، ثم خرج و قد ظهر عليه أثرُ الفتح، فكان من قدرِ الله أن اشتغلَ بإذاية بعض الصالحين الأحياء من أهل بلده، و كان والدُ هذا الصالح من مشاهير العارفين بالله، و من المستغرقين في محبة رسول الله، فاتفق أن قدِمَ هذا الطالب على الشيخ زائراً، فلمَّا دخل عليه بباب داره من فاس أشار إليه بيده بمجرَّد وقوعِ بصره عليه «أن اذْهَبْ» ثم قال له بلسانه: "رُحْ عنِّي فإنَّك تؤذي ولد الحبيب"، و طرَدَه، فبقي يتردَّد إلى بابه، فلم يقبله بَعْد، و العياذ بالله تعالى.
و أراد بقوله: «ولد الحبيب»» أن ولدَ الصالح المذكور كان حبيباً للنبيِّ، و يدلُّ لقول الشيخ رضي الله عنه ما قدَّمناه عنه من أنه كان مستغرِقاً في محبة الرسول عليه الصَّلاة و السلام مشهوراً بذلك بين الخاص و العام. و تعظيم حرمة الأولياء يكون باعتقاد خصوصياتهم و علوِّ منازلهم عند الله تعالى، و التصديقِ بما منَحَهم الله و خصَّهم به من الفتوحات و الأنوار و البركات و الأسرار، و الجزمِ بأن فضائلهم و خصائصهم لا تُحَدُّ بمقياس و لا تتقدَّر بمقدار، لأنهم عبيدُه المصطفون الأخيار. و أرفعُ من هذا و أعلى و أعزّ و أغلى أن ينظمَّ إلى هذا الإعتقادالإستحضار، لأن جميع ذلك مفاضٌ عليهم من حضرة سيد الوجود، و مصطفى الحقِّ من العباد، فبذلك يصيرُ التعظيم الموصوف خدمةً لجانب سيد كلِّ شريف ومشروف، ، و شرف و كرم و مجد و عظم.و استثني من المنْعِ من الالتفات الأنبياءُ عليهم الصَّلاة والسلام، وكذا الصَّحابة الكرام، لأن الإلتفاتَ إليهم لا يعدُّ الْتفاتاً عنه . واستثني أيضاً من ذلك زيارةُ من كان من أهل هذه الطريقة الشريفة والسلسلة السامية المنيفة، لأن الأنوارَ المفاضة عليه هي المفاضةُ على الشيخ من الحضرة المحمدية صلوات الله وسلامه عليها بعينها، لأن أصحابَها المستفيضين منه مظاهر أنوارِه بلا شك. فللمُريد من أهل هذه الطريق أن يقصدَ قبورَ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقَصْد الإنتفاع بهم، وكذلك قبور الصَّحابة الكرام أجمعين، وكذلك من كان من أهل هذه السلسلة الفاخرة حيّاً كان أو ميتاً، وأما الغيرُ فلا.
وما في "جواهر المعاني" من أن المريد له أن يزور الأولياء الأموات، بشرطِ أن يقصدَ بذلك مواصلتهم لله، ويطلب عندهم رضا الله ورسوله ورضا شيخه عنه لا غير صحيح، لأن المنْعَ محطُّه قصدُ الإنتفاع بالمرور، وهو في هذه الصورة منتفٍ بلا شك، لأن القصْدَ هو المواصلة لله تعالى.لكن هذا إنما يصحّ ممن تحقق بمنزل الإخلاص، وبَلَغ في تصفية النفس وتزكيتها إلى أن صارَ بحيث لا يلتبسُ عليه شيءٌ من دسائسها وخداعها. و أما من كان مرتهناً في أسْرِ شهوته، محبوساً في سجنِ هواه و غفلته، فإنه لا يعرفُ المواصلة لله، و إن ادَّعتْ نفسُه ذلك فهو من مكْرِها و خداعها لا غير. و قد كان سيدنا يقول: "العامةُ لا تعرفُ العملَ لله" اهـ.
فالخيرُ كله مجموعٌ لنا معشرَ الضعفاء و أهل الحجاب في اتهام أنفُسِنا و عدم الإغترار بشيء مما تدعو إليه و تشرئِبُّ إلى فعلِه و الحرْص عليه. و لهذا آلَ الأمرُ من سيدنا في آخر عمره إلى سدِّ هذا الباب و حَسْم هذه المادة من أصلها، و على ذلك استمرَّ العمل بعده من جمهور أصحابه المعتبرين، على أن الخطبَ في هذا سهلٌ عند من أنصف، فإن فضل المواصلة لله لا لعلَّة زائدة يحصل بالإعتقاد و التعظيم القلبي، بل ربما كان ذلك أفضل لسلامته مما يتوقَّع في القصد إلى الأولياء بأعمال الحركة الظاهرة من التصنُّع و الرياء و العجب و نحو ذلك. فالإقتصار على التعظيم القلبي في حقِّ المريد أوْلىٰ له من ارتكاب ما يتوقَّع بارتكابه الإخلال بهذا الأصل الذي قال فيه الشيوخ إنه أصلُ الأصول حسبما تقدَّم، و خصوصاً في طريقنا هذه، فإن سيدنا جعلَ مدارَ التربية فيها عليه، و قد تقدَّم توجيه ذلك.
وفي هذا القدر الذي أتينا به هنا كفايةٌ لمن سلك سبيلَ الإنصاف، وتجنَّب طريق الإعتساف، وسيأتي لنا قريباً إن شاء الله تعالى مزيدُ كلام في هذا الباب، والله الموفق للصواب.
***
(2) قَلاَهم. أبغضهم وهجرهم، والقِلا: مصدره.
(3) الرَّنْد: شحر طيب الرائحة من الفضيلة الغارية، ينبت في سواحل الشام والغور الجبال الساحلية. والعَرار: نبات طيب الرائحة، الواحدة: عرارة.
(4) رواه البخاري في (الإيمان:8) ومسلم في (الإيمان: 69، 70)، والنسائي في (الإيمان: 19)، وابن ماجة في (المقدمة: 9).
(5) الشقاشق: جمع الشِّقشقة، وهي شيء كالرئة يخرجه الجمل من فيه إذا هاج وهدر. ويقال: هدرت شِقْشقة فلان: ثار، أو أفصح في كلام.
كلام ابن وفا في الزيارة
ذكَر الشيخ عبد الوهاب الشعراني في "طبقاتـ"ـه، و كذا في "البحر المورود" عن الأستاذ الكبير سيدي علي بن وفا أنه كان يقول: "اعلمْ أن قلوبَ الرجالِ أمثالُ الجبال، فكما أن الجبالَ لا يزيلُها عن أماكِنها إلا الشِّرْكُ بالله تعالى كما قال عز وجل: ]وَ تَخِرُّ اُلْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْاْ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا(91) [ (مريم: 90-91) فكذلك الوليُّ لا يزيلُ همَّته عن قلبِ من آولى إليه إلا شرك موضع خالص المحبة من قلبه لغير وليِّه و ربِّه، فلا يلتفتُ للولي قلب مريده سوى الشرك لا تقصيره في الخدمة و لا غير ذلك" اهـ.
و من كلام الأستاذ ابن وفا : "المريدُ الصادق عرشٌ لاستواءِ رحمانية أستاذِه، كتبَ على نفسِه أن لا يدخلَ بيتاً فيه سواه، و لا يظهرُ لعينٍ رأتْ غيره في مرآه" اهـ.
و من كلامه أيضاً : "مرتبةُ السيادة لا تقبلُ الشركة و لا تحملُها، فهي تدفعها عن نفسها لغيرةِ من أصابته تركته كالرميم" اهـ.
و من كلامه : "لما كان الحقُّ سبحانه و تعالى لا يغفرُ أن يشركَ به فكذا مظاهره لا يغفرون أن يشرَكَ بهم، لأنه حقيقتهم الظاهرة المتمثّلةُ بهم، فهو هُمْ، و هو قوامُهم، و أمورُهم كلّها أموره. فإذا رأيت أحداً منهم يكرهُ، ممن يتعيَّن عليه حبُّه أو تعظيمه، أن يحبَّ سواه كحُبِّه و يعظِّمه كتعظيمه، فاعلمْ أن ذلك شأنُ الله الذي لا يغفرُ أن يشرَكَ به ظهر به في مظهره، فافهمْ و اعرفْ و الزم" اهـ.
و من كلامه أيضاً : "الأستاذ مظهر سرِّ الربوبية لمريده، فعلى المريد أن يقفَ عند أمر أستاذه، و أن لا يلتفتَ عن أستاذه يميناً و لا شمالاً"، و أطالَ في ذلك، فراجعه بتمامه في ترجمته من "الطبقات" إن شئت.
كلام ابراهيم الدسوقي في الزيارة
من كلام الشيخ الكبير سيدي إبراهيم الدسوقي : "رأسُ مالِ المريدِ المحبَّةُ و التَّسليم"، إلى أن قال: "فإذا كانَ المريدُ كلَّ يومٍ في زيادةِ محبةٍ و تسليم سَلِمَ من القَطْع، فإن عوارضَ الطريقِ و عقبات الإلتفات و الإراداتِ هي التي تقطعُ عن الإمدادِ و تحجبُ عن الوصول" اهـ.
العهود المحمدية
في "العهود المحمدية" أن بعض المريدين شاوَرَ شيخَه في زيارة شخص من مشايخ عصره و سمَّاهما فقال الشيخ: "يا محمدُ لا ينبغي لمريدٍ أن يأخُذَ عن شيخ إلا إذا علِمَ أنه يكفِيه عن جميع الناس، فإن كنتُ لا أكفيكَ تقيدت على من شئت".
ما في جنة المريد عن الزيارة
قال في "جنة المريد" بعدما ذكر وظائف الشيخ: "ثم لا يتركُ أصحابه يزورونَ شيخاً آخر، و لا يصلح ذلك بالمريدين، إذ المضرَّةُ لهم بذلك محقَّقة الوقوع، إذ لكلّ شيخٍ طريقةٌ تخصَّه لا يتعدَّاها و لا يخلطها بغيرها، فيسمع المريدُ تلك الطريقة و يرى منها ما هو خلافُ طريقته، فيختلفُ عليه الأمرُ و يقفُ في سلوكه، و قلَّما يجيءُ منه شيء. و على الشيخ سدُّ هذا البابِ على المريدين، و لا يمنعه تخيُّلُ من لا عِلْمَ عنده، و لا صدق أن ذلك من جهة الإستبداد بالرئاسة و الحسد، فمقام الشيخوخة منزَّه عن ذلك". ثم قال: "و القطبُ الذي عليه مدارُ هذا الباب هو حسن التعلُّق بالشيخ، و حسن الإقتداء به، و صدق التحكيم، و كمال الإستسلام له من غير منازعة و لا اعتراض، و قد قالوا: لا عقوبة لعقوق المشايخ إلا سوء الخاتمة، و العياذ بالله تعالى" اهـ.
ما في الذهب الإبريز عن الزيارة
قال في "الذهب الإبريز" حاكياً عن نفسه رَحِمَهُ اللهُ تعالى ما نصّه: "و كنتُ أتكلَّم معه، يعني شيخه القطب سيدي عبد العزيز الدباغ ، و نحن في جزاء ابن عامر بمحروسة فاس، أمنها الله، فقال لي: "إن سيدي منصوراً في رأسِ الدرب، أتحبُّ أن تتلاقى معه و تعرِفَه؟" فقلت: "يا سيدي نعم و حباً و كرامة، و كيف لا أحبُّ أن ألتقي مع القطب؟" فقال : "أما أنا، فلو قدرنا أن أباك و أمك وَلَدا من يماثِلُكَ في شكلِكَ و صِفَتِك و علمك و جميع ما عليه ذاتك باطناً و ظاهراً عدد مائة، ما نظرت إلى واحدٍ منهم، أنت حظِّي و قسمتي و هم عندي كسائر الناس"، فاستيقظتُ من غفلتي، و علمتُ أني ما جئت بشيء، فإن المحبة لا تقبلُ الشركة" اهـ.
و فيه من الحكايات الحائمة حولَ هذا المرْمَى غيرَ هذه، فليراجعه من أرادَ الوقوفَ على ذلك إن شاء.
و سمعت بعض أصحابنا يقول: وقد جرى ذكر هذه الحكاية أن هذه الحكاية تدلُّ على أن المؤلّف رَحِمَهُ اللهُ تعالى كان محبوباً حيث لم يطردْ بسبب جوابه هذا للشيخ عن هذا الإمتحان العظيم الذي امتحنه به و الله أعلم.
تنبيه
[تنبيه] كثيراً ما يسمعُ بعض المنتسبين إلى العلم أو إلى طريق أهل الله تعالى ممن لا اطِّلاع لهم على هذا الشرط نهيَ سيدنا لأصحابه عن هذه الزيارة، فيقول: «إن ذلك في حق من لم يقفْ عند ما حدَّ الشرعُ فيها»، و قد علِمْت مما سلف من توجيه المنْعِ عندهم أن الكلام فيما إذا أدَّيتَ على الوجْهِ المحمود شرعاً.
و أما إذا أدَّى الأمرَ فيها إلى فعل منهيٍّ عنه فهي بحسبه، مكروهةٌ أو محرمة، بلا نزاع. كما إذا وقعَ من الزائر مثلاً سجودٌ على الأرض بين يدي قبور الصالحين، كما يفعلُه كثيرٌ من الجهال، و هذا مما لا يقولُ بجوازِه مسلم، لأنَّ السجودَ لا يكون إلا لربِّ العالمين، فليحذر المؤمنُ كلّ الحذرِ من فعل الجاهلين.
و أما تقبيلُه قبْرَ الوليّ، فيجري فيه الحكمُ عند المالكية على الأصْلِ عندَهم من الكراهة في غير ما وَرَد به الشرعُ، كتقبيل الحجر الأسود، لكن نَقَلوا عن التوضيح أن بعضَهم استنبطَ من تقبيل الحجر تقبيلَ المصحفِ، و المنبر النبوي، و القبر الشريف، و قبور الصالحين، وأجزاء الحديث. و ممن قال بذلك ابن أبي الصيف اليمني من الشافعية، ذكره الشيخ جسوس رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
المسلم
والمراد بـ (المسلم) هنا: ما يشمل الذكرَ والأنثى والصغير والكبير والحرَّ والعبد والطائعَ والعاصي
×