التعريف بالشيخ | ذكر زمن وفاته بحضرة فاس
ثم أراد الناظم أن يذكر زمن وفاة سيدنا بحضرة فاس وأنه لم ينتقل منها بأهله بعد أن استوطنها إلا إذا سافر إلى الصحراء بنفسه فقط، فأشار إلى ذلك فقال:
(وسافرَ الشَّيخُ إلى الصَّحارَى |
|
بنَفْسِهِ مِن بَعْدِ ذَا مرارا |
وعمْر شيخنا العَلِيِّ فَضْلا |
|
ومَنصِباً حوَى بهاءً كهْلا |
وحِينَ ماتَ شيخُنا ذُو الشَّانِ |
|
ماتَ الإمامُ العارفُ الرّباني) |
(الصحارى) هذا بفتح الراء جمع صحراء، وهي البرية تجمع على: صحاري، بكسر الراء مثقل الياء، لأنك تدخلُ ألفَ الجمْعِ بين الحاء والراء وتكسر الراء كما تكسرُ ما بعد ألف الجمع في نحو: مساجد ودراهم، فتنقلب الألفُ الأولى التي بعد الراء ياء للكسرة التي قبلَها، وتنقلبُ ألفُ التأنيث ياءً أيضاً لكسرة ما قبلها، فتجتمعُ ياءان فتدغَمُ إحداهما في الأخرى، ويجوز التخفيفُ مع كسر الراء وفتحها، فيقال: صحاري وصحارى كعذاري وعذارى، وعزالي وعزالى، والكسر هو الأصلُ في الباب كلِّه، والفتحُ مسموعٌ، فلا يقال: وزن «مجارَى» بالفتح «فعالل» بفتح اللاَّم لفَقْدِ هذا البناء في الكلام، وإنَّما هو منقولٌ عن «فعالِل» بالكسر اهـ. ومعنى (بنفسه) بذاته، والمراد هنا: الاحترازُ من السفر بالأهل.
و(مراراً) مرَّات، و(العمر) تقدَّم أنه مدة الحياة، و(الفضل) الفخار، و(المنصب) الرتبة والمكانة، (وحوى) جَمَع، و(البهاء) الجمال، و(الكهل) من الرِّجال هو من جاوَزَ الثلاثين ووَخَطَه الشيبُ، وقيل: من بلغ الأربعين. وعن ثعلب في قوله تعالى: ﱹوَكَهْلاً ﱸ [آل عِمرَان: الآية 46] قال: ينزل عيسى إلى الأرض كهلاً ابن ثلاثين سنة اهـ، وجملة قوله: (حوى بهاء كهلاً) رمز إلى مدة عُمُرِ سيدنا ، فعدَدُ حروفها الواقع عليها بحسب الجمل هو عدد سنيِّ عمره ، وذلك ثمانون سنةً، لأنه ولد حسبما تقدَّمت الإشارة إليه في عام خمسين ومائة وألف، وتوفي كما هو مذكور في البيت الذي يلي هذا عام ثلاثين ومائتين وألف، فتكون مدة عمره رضي الله عنهما ذكر من السنين، باقي ألفاظ الأبيات ظاهر، وجملةُ قوله: (مات الإمام العارف الرباني) رمز لتاريخ وفاته وهو ما ذكرناه.
يقول: وبعد أن استوطن سيدنا بأهله الحضرة الفاسية، سافر مراراً بنفسه فقط [في] البلاد الصحراوية، ولم ينتقلْ بعد ذلك عنها إلى غيرها من الأمصار لما هيَّأها الله تعالى له وخصَّها به من سَنى الفضل والفخار بمَدْفنه منها بزاويته المباركة الشهيرة البركات والأسرار؛ الكثيرة الخيرات الساطعة الأنوار، وذلك بعد أن أزمع الانتقالَ عنها، وعزم على الارتحال إلى القطر الشامي بجميع ما معه من الأهْلِ والعيال، لما ورد في فضل ذلك القطر من الفضل عن سيد الأنبياء والأرسال، وشرف وكرم. فبينما هو قد أخذ أُهبة سفره بشدِّ رحاله وأقتابه(1) ولم يبقَ له إلاّ الخروجُ لموادعة أحبابه وأصحابه، وقد نزلَ بهم من الحيرة والنكد ما يذهل الوالد عن الولد حتى كادت أن تتفتَّتَ أكبادهم وتنصدع أفئدتُهم وتذوب أجسادهم، ما بين مصعِّدٍ لمترادف زفراته، ومسبلٍ لواكفِ عبراتهِ(2)، ومتعثر في أذياله لما عراه من تبلبل باله(3)، ومنخرس اللسان، ومنذهل العقل، كأنه من ذهوله سكران أو وسنان، ومن متردٍّ من طرق تلك الأزقة غير مكترث بما لحقه في إقباله وإدباره من المشقة، ومن مقعد بفناء داره، لم يستطع النهوضَ من قراره يرتقبون توديعَه الذي هو في الحقيقة توديعُ أرواحِهم، وتشييعه الذي هو تشييع مادة حياة أشباحهم، إذ أشْرَقَ عليهم نورُ غرَّته، وطلع عليهم بهاءُ محياه الكريم وسنى طلعته، فبشَّرهم بما هو الشفاءُ مما دعاهم، والترياق لما عراهم(4)، وأخبرهم بما نفخ به في رميم أحوالهم روحَ الحياة الهنيئة في حالهم ومآلهم، وذلك بأن قال لهم وأرضاهه: إن أولياء الغرب أبَوْا أن يفقدوا من بين ظهرانيهم نوره وسناه، فطلبوا من حضرة سيد الوجود ورغبوا إليه في بقاء وجوده العيني وشخصه المشهود بين الأغوار من قطرهم المبارك والنجود(5)، لأنه صلى هو مربِّيه وكفيلُه وإليه يستند من أمره كثيره وقليله، فأجابهم لمطلبهم وأسعفهم بمرغبهم، فأذِنَ له في المقام وعدم دم الترحال فلم يمكنه إلا الانقياد والامتثال، فعند ذلك قرَّتْ به في الحضرة الفاسية المباركة الدار، وألقى من يده عصا التَّسيار(6)، وزال عن جميع أصحابه الكرام ما كان قد روَّعهم بين الأنام.
وكانت وفاته في العام المذكور والتاريخ المسطور صبيحة يوم الخميس السابع عشر من شوال بعد أن أدَّى فريضة الصبح على حالة الكمال، ثم اضطجع على جنبه الأيمن ودعا بماءٍ فشرب منه، ثم عاد إلى اضطجاعه على حالته فطلعت روحه الكريمة من ساعته وصعِدَت إلى مقرِّها الأقدس، ولحقت بسِرْبِهَا من محضرها الأنفس، وحضر جنازته المباركة ما لا يكاد يحصى من علماء فاس وصلحائها وفضلائها وأعيانها وأمرائها، وصلّى عليه إماماً علاَّمتُها الأوحد ومفتيها الماهر الخريت(7) الأمجد، الفقيه النحرير(8)، المشهود له بالتحقيق والتحرير، أبو عبد الله سيدي محمد بن إبراهيم الدكالي نسبة إلى الإمام التونسي الشهير، وازدحم النَّاسُ على حمل نعْشهِ المبارك الميمون، وكسروه بأثر دَفْنه أعواداً صغاراً ادَّخروها للتبرُّك بما حمل فيه من السر المصون.
وبالجملة، فقد أجمعَ من حَضَر موته على أن ذلك اليوم يومٌ مشهود، تساوى به في الازدحام على تشييع جنازته وحمْلها وحضور الصلاة عليه المعتقد والمنتقد والمقِرُّ والجحُود، فهنيئاً لتلكم الحضرات الشريفة المنوَّرة، بما ضمته من أعضائه الطيبة الزاهرة المطهرة، ثم هنيئاً فهنيئاً لا ينحصر تعدادُه وتكراره لمن ضمنه جِوارُه، وإن نزحت به في المشاهد دارُه وشملته عنايته وأنواره وإن شَطَّ به مَزارُه(9)، جعلنا الله تعالى بمخض فضله في جواره الذي لا يُضام في هذه الدار وفي دار المقام، بجاه ما لَهُ عند ربِّه سبحانه من أكيد الذِّمم وعظيم الحرم آمين. وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم آمين.
وهذا الذي عقد الناظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى في هذه الأبيات، من تاريخه مدَّة العمر والوفاة واضحٌ مشهور عند الثقات مجمَعٌ عليه عند الأثبات، وما تممنا به سبكها من جميع ما أشرنا إليه هو من مروياتنا عمن تصحُّ الرواية عنه ويعوَّل في النقل عليه.
(كرامة ظاهرة ومَنْقَبة باهرة) وقفتُ على ورقةٍ بخطّ سيّدنا علي مشتملة على بعض مطالبه من الله تعالى، ومن جملة ما طَلَبه فيها التعمير هذا القدرُ من السنين، فسبحان الله العظيم ما أجلَّ كرامات هذا الشيخ الكريم وأرضاه، ونفعنا بمحبّته ورضاه، وانظر السرَّ في طلبه التعمير هذه المدة، فإنِّي لم أقفْ على شيء في ذلك إلا ما ذكره ابن حجر في الأحاديث الواردة في الخصال المكفِّرة للذنوب مما أخرجه البيهقي في كتاب الزهد عن أنس ، وفيه: «إذَا بَلَغَ العَبْدُ المسلِمُ ثَمَانِينَ سَنَةً قبِلَ الله حسناتِهِ وتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئاتِه» والله أعلم بمرادِ الشيخ .
***
(2) وَكَفَ الماءُ وغيره يكِفُ وكْفاً ووَكيفاً ووَكَفَاناً: سال وقطر قليلاً فليلاً، ووكفت العين الدمعَ: أسألته. والعَبَرات: الدموع.
(3) تبلبل: اختلط واضطرب.
(4) عراهم: أصابهم.
(5) الأغوار: ما انخفض من الأرض، والنجود: جمع النَّجْد، وهو ما ارتفع من الأرض.
(6) «ألقى عصا التسيار» كناية عن الإقامة بالمكان.
(7) الخِرّيت: الدليل الحاذق بالدلالة. ويقال: هو في هذا الأمر خرِّيت، وهو خِرِّيت في هذا الأمر: حاذق ماهر فيه.
(8) النِّحرير: العالم الحاذق في علمه، جمعه : نحارير.
(9)
شطّ مَزاره: بَعُد.