وصايا و رسائل الشيخ أحمد التجاني | الرسالة الشافية

الرسالة الشافية

(إلى عامة أصحابه)

 

بعد البسملة والصلاة والسلام على مولانا رسول الله .

اعلموا رحمكم الله أن الناس ما خلقوا في هذه الدنيا إلا لعبادة الله تعالى، وتوفية أوامره، واجتناب نواهيه، وإن توفية أمر الله تعالى والقيام بحقوقه من آكد الواجبات، وأعظم التوجهات إلى الله تعالى، قضى بذلك حكم المرتبة الإلهية والشرائع النبوية، قال سبحانه وتعالى: [وَمَا خَلَقْتُ اُلْجِنَّ وَاُلإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ](الذاريات : الآية 56) وقال تعالى: [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي ءَادَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُواْ اُلشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اُعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ](يس : الآية 60-61) وقال سبحانه وتعالى: [إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون] (الأنبياء : الآية 92) وقال سبحانه وتعالى: [وَأَطِيعُواْ اُللَّهَ وَاُلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] (آل عمران : الآية 132)  وقال سبحانه وتعالى في حق رسوله : [وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ ۚ](النور: الآية 54) .

وقال عز وجل: [تِلْكَ حُدُودُ اُللَّهِ ۚ وَمَنْ يُطِعِ اُللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اُلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ اُلْفَوْزُ اُلْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اُللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ](النساء: الآية 13-14) .

إلى غير ذلك من الآيات المطردة في الحث على هذَا المطلب.

ثم آكد ما يحافظ عليه من أمر الله هو الصلوات الخمس بجميع أحكامها، ومقتضياتها، ولوازمها. وهي مضبوطة في كتب الأئمة. فالواجب لها المحافظة على شروطها المعلومة، واستكمال فرائضها المشهورة، وتثقيل هيئتها في الركوع والسجود على الحد الذي ذكره رسول الله في الخبر الصحيح بقوله : "... ثم تركع حتى تطمئن راكعا، ثم ترفع حتى تستوي قائما، ثم تسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ترفع حتى تستوي جالسا، ثم تسجد حتى تطمئن ساجدا..."وقال :"وافعل ذلك في صلاتك كلها".

واحذروا كل الحذر من الوقوع في الهلاك الذي وقع فيه الناس من عدم مبالاتهم بتكميل أمر صلاتهم، فإنهم ينقرونها نقر الديكة للحب، وذلك مبطل لها بشاهد قوله للرجل الذي رآه يفعل ذلك: "ارجع فصل فإنك لم تصل" وهو يصلي كذلك ثلاث مرات على الهيئة التي هي الإسراع في الركوع والسجود، وفي الرابعة علمه الكيفية السابقة. وقال : صلوا كما رأيتموني أصلي"، فإنه كان يتم الركوع والسجود بالطمأنينة.

وحقيقة الطمأنينة في الشرع: عدمُ الاضطراب، والسكونُ، ومعناه أن الراكع والساجد إذا بلغ حد الركوع والسجود، يتراخى فيهما قدر ما يسبح الله تعالى تسبيحات وهو راكع أو ساجد، أقلها ثلاث تسبيحات بالترتيل لا أقل من ذلك، هذا أقل الطمأنينة، ومن نقص من هذا القدر فسدت صلاته، فإنها هي التي وقع فيها الخبر أنها إذا صلاها صاحبها، فبعد فراغه منها يأخذها الملك فيلفها كما يلف الثوب الخلق ثم يضرب بها وجه صاحبها. 

والمطلوب في الشرع أن يأتي الإنسان لصلاته مثل إتيانه لنومه إذا غلبه. فإن آتي النوم إذا غلبه النوم يُلقي عنه جميع أشغاله، ثم ينام منحطا للنوم مطمئنا غير مستعجل للفراغ من النوم ولا متخفف له. فكذلك حالة المصلي مع صلاته، يأتيها متثاقلا في أدائها، قد ألقى كليته إليها، تاركا لكل ما يُشغله عنها، ثم يفعلها بشروطها المذكورة.

وأما من صلاها مستعجلا لا يطمئن في ركوعها وسجودها على الحد الذي ذكرناه، فإنها غير مقبولة منه، وإليها يشير قوله : "إن أول ما يُنظر فيه من عمل العبد الصلاة، فإن قبلت منه نُظر فيما بقي من عمله، وإن لم تقبل منه لم يُنظر في شيء من عمله".

ثم الواجب لها تكميل الطهارة من الحدث والخبث. فليتعلم العبد أحكام الطهارة من الحدث بتكميل غسل أعضاء الوضوء وظاهر الجسد كله في الغسل. فإن أكثر العامة اليوم متلاعبون في غسل أعضاء الطهارة لا يستكملونها، فصلاتهم باطلة، يعرف ذلك من رآهم حالة الوضوء.

فإن من فسدت طهارته فسدت صلاته. كما أن من لم يستكمل الطمأنينة في الركوع والسجود، ولم يستكمل استواء القيام من الركوع، أو من لم يستكمل استواء الجلوس بين السجدتين بطلت صلاته.

فالحذر الحذر من وقوع الخلل في صحة الصلاة. فإن الصلاة في الإيمان، وأعمال الإيمان بمثابة الروح من الجسد، إذا وجدت الروح وجدت حياة الجسد، وإن فقدت الروح منه فقدت الحياة.

وأوصيكم بالمحافظة على أداء الصلوات الخمس في الجماعة إن كان الإمام يستكمل ركوعها وسجودها كما سبق وإلا فلا تحل الصلاة خلفه.

وأوصيكم بإتقان حفظ فاتحة الكتاب، وتكميل تلاوتها في الصلاة بالترتيل على الوجه الذي أنزلت به لا تختل، فإن الفاتحة من الصلاة بمنزلة العمود من البيت، إذا سقط العمود سقط البيت، فحافظوا عليها.

ثم بعد الصلاة، المحافظة على صوم رمضان بتكميل شروط صيامه، وكف النفس عن اقتحام المحرمات في ليله ونهاره، فإن حرمته من الشرع لا يجهلها إلا الجاهل.

وليحذر الإفطار بالعيش الحرام فإنه مضر بالدين.

وعليكم بالمحافظة على أداء زكاة الأموال، والاعتناء كل الاعتناء بها، وحفظ نظامها، وتكميل شروطها بتمامها، على الحد المحدود في كتب الفروع المبسوطة.

واعلموا أن بحر الذنوب قد طما في هذه الأزمان، وتلاطمت أمواجه، وتراكمت ظلماته، حتى عجز الخلق عن الخروج عنها إلا صدِّيق، أو شيخ واصل، أو من قرب مقامه، أو من جذبته العناية. وما عدا هؤلاء فقد تمكن العجز فيهم عن الخروج عن الذنوب. فحيث كان الأمر هكذا بقضاء مولانا جل جلاله، فليشتغل العاقل بعد تصحيح فرضه بمكفرات الذنوب، وهي كثيرة بحمد الله تعالى. فان من اشتغل بها مع كثرة الذنوب بعد إنفاد المجهود في مدافعتها ما أمكن، تخف عنه مؤونة الذنب. وهو خير من الذي يقتحم الذنوب ولا يأتي بمفكرات، قال تعالى: ]إِنَّ اُلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ اُلسَّيِّئَاتِ ۚ  [ (هود: الآية 114) وقال : "وأتبع السيئة الحسنة تمحها..." أو كما قال مما معناه هذا. وذلك بمنزلة من تُجدد عليه الجراح في جسده، فكلما وقع به جرح أسرع إلى دوائه، فهو خير له من الذي تنصب عليه الجراح ولا يتداوى ويقول: إن الدواء لا يفيد فيها لكثرتها.

وكل معصية لا بد لها من عقوبتين: عقوبة دنيوية وأخرى أخروية.

أما الدنيوية فلا ترتفع عن العاصي إلا بأحد أمرين:

الأول: إخراج صدقة خالصة لله تعالى من مال حلال أو كالحلال شرعا، فبها ترتفع ويندفع عنه بلاء المعصية.

الثاني من الأمرين: الرجوع إلى باب الله تعالى بالضراعة والابتهال، والذل والانكسار، والتصريح في الدعاء بطلب العفو منه سبحانه وتعالى، وطب رفع مصيبة ذلك الذنب. فإنه بسبب ذلك إذا أحسنه يرتفع عنه بفضل الله تعالى.

وأما عقوبة الآخرة فلا ترتفع عنه ولا بد له منها، إلا أن يعفو عنه سبحانه وتعالى بسبب أو بغير سبب. وأسباب العفو كثيرة، من أرادها فليطالعها فيما ذكرناه وفي كتب الحديث.

وأما مكفرات الذنوب، فأعظمها قدرا، وأكبرها خطرا، وأبلغها في محو الذنوب والسيئات هي كثرة الصلاة على رسول الله بقدر الاستطاعة، فإنها الذخيرة العظمى، والحصن المنيع الأحمى. فمن ثابر عليها بقدر الاستطاعة فإنها كفيلة بمحو الذنوب والآثام، مقبولة الشفاعة لصاحبها بين يدي خالق الأنام.

ولاستعمالها شروط: منها الطهارة الكاملة كالصلاة، وإلا فالطهارة من الخبث دون الحدث، وطهارة البدن والمكان والثوب، وأن يقصد صاحبها بها وجه الله العظيم، والإجلال لله ولرسوله دون غيرها من سائر النيات. فإن لها أحوالا في النيات. وإخلاص العمل فيها من شوائب الرياء والسمعة. فإنها إذا صحت على هذا المنهج كانت فائدتها أعظم وأكثر من جميع وجوه البر إلا النزر القليل منها. فإنه ثبت الخبر بها أن المرة الواحدة منها تعدل أربعمائة غزوة في سبيل الله، وكل غزوة تعدل أربعمائة حجة مقبولة، وكذا الطائر الذي يخلقه الله في الصلاة الواحدة منها، يخلقه الله تعالى يسبح بجميع ألسنته، وثوابه للمصلي. وكذا في الحديث الشريف أن الله تعالى يخلق ملكا من الصلاة الواحدة فينغمس ذلك الملك في بحر الحياة، فإذا خرج ينتفض فيخلق الله تعالى من كل قطرة طارت منه ملكا يستغفر الله للمصلي إلى يوم القيامة. وفيها أيضا عشر حسنات، ومغفرة عشر سيئات، ورفع عشر درجات، ويصلي عليه ربه عشر صلوات، وتصلي عليه ملائكة سبع سماوات كل واحد عشر مرات. وهذا الأمر لا يُقدّرُ قدره. وبكل صلاة من صلاة العبد حوراء وقصر في الجنة، ويكفي هذا فيها.

وكذا من مكفرات الذنوب: الصلاة على رسول الله ثمانين مرة ليلة الجمعة ويومها بعد العصر، فإن الثمانين التي في الليل تكفر ذنوب أربعمائة سنة، والثمانين التي بعد العصر تكفر ذنوب ثمانين سنة.

ومن مكفرات الذنوب: صلاة التسبيح، وهي مشهورة في كتب الحديث فلا نطيل بذكرها، فإنها كفيلة بتكفير جميع الذنوب من بداية تكليف العبد إلى مماته. ]والله ذو الفضل العظيم[.

ومن مكفرات الذنوب: الدوام على قراءة آخر سورة الحشر، فإن صاحبها يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

ومن مكفرات الذنوب: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ملء ما علم وعدد ما علم وزنة ما علم. فإن المرة الواحدة منها تكفر جميع الذنوب وتؤمن العبد من عذاب الله تعالى.

ومن مكفرات الذنوب: المواظبة على المسبعات العشر بكرة وعشية، فإن من قرأها دائما لم يكتب عليه ذنب.

ومن مكفرات الذنوب: السيفي مرة في الصباح ومرة في المساء، فإن من دوامه لم يكتب عليه ذنب.

ومن مكفرات الذنوب دعاء: "يا من أظهر الجميل..." إلخ. فإن الخبر ثبت أنه يمحو جميع الذنوب ويُعْطى صاحبه ثواب جميع الخلائق في كل مرة منه ويكفي هذا.

وأوصيكم بالمحافظة على البعد من إذاية الناس وإضرارهم، والبحث عن عيوبهم وعوراتهم، فإن المشتغل بذلك لا يفلح لا في الدنيا ولا في الآخرة.

وأصيكم بالبعد من أمور كل من وقع في أمر منها أماته الله كافرا من غير شك - والعياذ بالله تعالى -: كثرة إذاية المسلمين، الإكثار من الزنى من غير توبة، وإدعاء الولاية بالكذب، والانتصاب للمشيخة بغير إذن، وتعمد الكذب على رسول الله بحكاية قوله، والانهماك في الغيبة والنميمة بلا توبة. فهذه أمور يقطع لصاحبها أنه يموت كافرا ولو عمل ما عمل إلا أن يتوب، وإنما يختم له بالكفر إذا بقي مصرا على ذلك حتى مات والعياذ بالله تعالى.

وأوصيكم بطهارة القلب من الغل والحقد على المسلمين، فإن من تخلق بذلك لا يفلح أبدا.

وأوصيكم بالبعد عن سوء الظن بالله وبعباده المومنين، فقد قال : "خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حسن الظن بالله وحسن الظن بعباد الله، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: سوء الظن بالله وسوء الظن بعباد الله".

وأوصيكم بالبعد عن أكل الحرام شرعا، فإن المداوم على ذلك يحبط عمله لا محالة، فقد قال :

"ليجيئن أقوام يوم القيامة معهم من الحسنات أمثال جبل تهامة، حتى إذا جيء بها صارت هباء منثورا. فقالوا: يا رسول الله صف لنا هؤلاء فو الله إنا نخشى أن نكون منهم، فقال: أما والله إنهم كانوا يصومون ويصلون ويأخذون وَهَناً من الليل ولكنهم إذا لاح لهم لائح من الحرام وثبوا عليه فأدحض الله أعمالهم وقذفهم في النار".

ثم إن الحرام وإن عم الأرض كلها، فله أحوال في التحليل على حسب الضرورات والأعذار، وسيذكر في آخر الوصية إن شاء الله توجيه ما يتناول من ذلك.

وأوصيكم بالبعد عما دان عليه الناس اليوم وانكَبوا عليه، وعم جميع آفاق الأرض إلا النزر القليل من الخلق. وهو المعاملة بالغش في جميع أحوال المبيعات والمعاملات، والانهماك في تناول المعاملات الفاسدة في البيع والشراء مما حرمه الشرع المطهر صراحة أو ضمنا، وهي مفصلة في الفروع الفقهية.

وأوصيكم بالمحافظة على أوقات تتوجهون فيها إلى الله تعالى بالتوجه الصحيح، إما بذكر أو تلاوة قرآن في الصلاة أو خارجها، وإما بالصلاة على رسول الله .

وأقل ذلك وقتان صباحا ومساء، والأفضل ثلاثة أوقات، صباحا ومساءاً وفي جوف الليل. وليجعل في كل وقت منها ما استطاع من الصلاة على رسول الله . فمن استكمل في جميعها عشرة آلاف موزعة على الأوقات المذكورة كان من أعظم الفائزين برضى الله تعالى في الدار الآخرة. وأعظم من ذلك في النفع ما زاد على العشرة آلاف. وإن لم يقدر فما دونها إلى ألف في كل وقت، وإن عجز فخمسمائة في الصباح ومثلها في العشي، وإن عجز فثلاثمائة في الصباح ومثلها في المساء، فمن داوم على ذلك كما ذكرنا فاز برضى الله في الدار الآخرة، وفي الدنيا تسهل عليه مطالبه، وتيسر له أمور معاشه، ويجد بركة ذلك في رفع البلايا عنه والعصمة من شرور الأعداء والحساد. والحاصل أنه يجد لها بركة في جميع المطالب الدينية والدنيوية. وبالدوام عليها تغشاه البركة وولده وولد أولاده. ومتى وقع منه ما يوجب هدما لدينه، أو محقا لحسناته، أو طردا له من باب ربه، أو ما يوجب الوقوع في المهالك الشديدة، صارت هي شافعة له بين يدي الله تعالى، وخرج له من عناية الله تعالى بسببها ما يقيه من جميع ذلك كله ويغفر له. فإنها أعظم الوسائل إلى الله تعالى، وأعظم المعارج إلى مرتقى درك رضى الله في الدار الآخرة، لأن الله عز وجل بشدة عنايته بحبيبه تكفل لتاليها أن يصلي عليه بكل واحدة عشرا، ومن صلى عليه ربه في أوقاته تباعدت عنه النقم والبلايا في الدنيا والآخرة.

فإنها للعامة المنهمكين في الشهوات أحق لهم من تلاوة القرآن العظيم. فإن القرآن درجته عالية، ومرتبته سامية. فهو أفضل من الصلاة على رسول الله . ولكن لا ينال فضله في التلاوة إلا من توقف عن تخطي حدود الله تعالى، قال سبحانه وتعالى: ]تِلْكَ حُدُودُ اُللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اُللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُون[َ(البقرة: الآية 229) . فلا يتأتى لقارئ القرآن أن يتلوه وهو ظالم، لأن الله تعالى جعل القرآن محل القرب والتداني، فلا يناله فضله. قال سبحانه وتعالى: ]وَمِنَ اُلنَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اُلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اُللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [َ(لقمان: الآية 6-7) . وقال سبحانه وتعالى: ]وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ۖ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلاَ مَا اُتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اُللَّهِ أَوْلِيَاءَ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ  [(الجاثية: الآية 7-10) . فأنت تسمع شدة الوعيد لمن قرأ القرآن ولم يعمل به والله الموفق.

ثم بعد الصلاة على رسول الله عمارة الأوقات بذكر الله تعالى، فإنه إن دوام على الصلاة على رسول الله عشرة آلاف مرة أو أكثر؛ يكفيه معها لا إله إلا الله مائة مرة، وإن عمل في كل وقت من الأوقات الثلاث "سبحان الله والحمد لله ولا إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ملء ما علم وعدد ما علم وزنه ما علم" عشر مرات في كل وقت؛ كانت كل مرة منها أفضل عند الله تعالى ممن يستغرق الليل والنهار في ذكر الله لا يفتر. فحافظوا على هذا ما استطعتم، فإن المحافظ على هذا تناله من الله تعالى عناية عظيمة في الدنيا والآخرة.

وأوصيكم وأؤكد عليكم في بذل صدقة في كل يوم أقلها ربع رغيف إلى درهم إلى ما وراء ذلك، من كسب يرتضيه الشرع على الوجه الذي نذكره في آخر الوصية في التصرفات في المعاملات العادية، فإن المداوم على الصدقة في كل يوم يحفظه الله تعالى من البلايا والمحن، ولتكن النية في الصدقة لله تعالى لا لغيره.

وأوصيكم وأؤكد عليم بالتباعد عن المجاهرة للناس بسوء القول، بل تعاملونهم بما تقدرون عليه من أحسن القول، وبما تقدرون عليه من حسن الخلق. قال سبحانه وتعالى: ]لاَ يُحِبُّ اُللَّهُ اُلْجَهْرَ بِاُلسُّوءِ مِنَ اُلْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ ۚ[(النساء: الآية 148) . وقال الله تعالى: ]وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اُللَّهَ وَبِاُلْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي اُلْقُرْبَىٰ وَاُلْيَتَامَىٰ وَاُلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا[(البقرة: الآية 83) . وقال في آخر حديث: "وخالق الناس بخلق حَسن" وقال : "رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس" الحديث.

تنبيــه

 

 

****

تنبيــه

 

اعلم أن إجماع الأمة قد انعقد على أنه لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس، وكل ما أخذ لا عن طيب نفس فحرام، وإلا ما يوخذ بصورة شرعية قهرية كأخذ الزكاة من مانعها،وما يتبع من الحقوق اللازمة شرعا وهي أيضا كثيرة مفصلة في كتب الفروع فلا نطيل بذكرها. فإن أخذ ذلك من صاحبها من غير طيب نفس حلال لتعلق الحق الشرعي به لقوله : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله".

وأما غير هذا فإن أخذ مال المسلم من غير طيب نفس حرام بالإجماع. قال رسول الله  في حجة الوداع: "إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، اللهم هل بلغت، فقالوا اللهم نعم..." وقال سبحانه وتعالى: ]يَا أَيُّهَا اُلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِاُلْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ۚ[ (النساء: الآية 29) .

فالمرجع في الحكم إلى هذه النصوص المحكمة العظيمة القدر، والوقوف عند حدودها فرض لازم على كل مسلم.

فإذا عرف هذا؛ فما مضت عليه عادة الأعراب والظلمة من اقتحامهم مال المسلمين بغير صورة شرعية، فكل ما بأيديهم حرام لا يحل لمسلم معاملتهم بوجه من وجوه العوض، ولا قبول عطياتهم وهداياهم، كل ذلك حرام، فهذا حده في الأصل.

ثم إن كان البلد قد غلب عليه جميع ذلك ولا يوجد غيره بأيديهم بوجه من وجوه المخالطة، فكل ذلك حرام. ومن تعلل ممن ينتسب للفقه وإلى الإسلام بأخذ ذلك مستحلا له معتذرا بعدم وجود غيره، فلا عذر له في الشرع، ويسجل عليه بأنه مقتحم ما حرم الله تعالى ظلما. ولا تحل سكنى المومن في ذلك المحل ولا بقاؤه بينهم، والهجرة عليه من ذلك المكان واجبة بتواتر نصوص الشرع الطاهر.

وأما ما كان مخلوطا عندهم بوجه من وجوه التجارة مثلا، أو أتلف عينه واشترى بدله عينا أخرى، أو بوجه من الحراثة أو الصناعة، أو ضم حلال بصورة شرعية إليه؛ فالأصل المعول عليه أن ذلك جله حرام بسبب ما اختلط فيه، فمن قدر على ذلك تمسك بهذا الأصل وجرى عليه.

ثم إن تنزل الأمر إلى عموم ذلك في الأرض، واختلط ذلك بصورة حلال وصورة حرام بأيدي كاسبيه، كما هو صورة الوقت؛ فعلى المومن في إقامة فرض طلب الحلال أن يجتنب ما علمت صورته صورة الغصب والمحرم وما جهل من ذلك، وكان الأصل اختلاط بصورة حلال وصورة حرام كما ذكرنا أولا وعم الفساد في الأرض كما هو صورة الوقت رجع إلى الأصل الثالث من أصول الحلال وهو: كون الحلال ما جهل أصله.

فإن صورة الحلال كانت في عهد رسول الله : ما عرف أصله وأصل أصله، ثم لما انقضت مدة الخلافة ورجعت ملكا عضوضا صار الحلال هو ما عرف أصله فقط، ثم لما زاد الفساد وطما بحره صار الحلال هو ما جهل أصله وهي المرتبة الثالثة في الحلال. وعلى هذا الحد وهذا المنوال يجري الحكم في معاملة هذه الطوائف بوجوه العوض وقبول عطيتهم، فلا يجتنب منها إلا ما عرفت صورة الحرام فيه مثل الشيء المغصوب، والمأخوذ في ثمن الخمر، والمأخوذ في ربا النسيئة أو ربا الفضل، ويقاس ما لم يذكر على ما ذكر.

وأما ما جهلت صورته، فإن علم من صاحبه أنه لم يكن عنده إلا الحرام ولم يخلط بصورة أخرى كالحرث والتجارة وإبدال عين بأخرى، فكل ما بيده حرام لا تحل معاملته ولا قبول عطاياه. وما اختلط بهذه الصورة من تجارة وحراثة وصناعة، وإبدال عين بعين أخرى وإضافة حلال له؛ لم يحرم مما بيده إلا ما له عين قائمة في التحريم. وما جهل أصله فحلال. وقولنا في هذا المحل حلال، إنما هو حلال عرضي لا أصلي لعدم وجود غيره. بكثرة الفساد وعمومه في الأرض واحتياج العبد إلى القوت، فيكون حلالا بما أعطاه الوقت والضرورة. فقد قال سبحانه وتعالى: ]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اُلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ[(الحج: الآية 78) ، وكذا قال القطب الكامل الوارث الواصل سهل بن عبد الله التستري : «لو كانت عبطة من دم لكان قوت المومن منها حلالا» لأن الله تعالى فرض العبادة على العبد وأباح له أن يأكل مما في الأرض حلالا طيبا كما هو نص الآية.

فإذا تتبع في الأرض وجوه الحلال وعمت البلية في الأرض كان تناوله للحلال الأعلى فالأعلى: إما أن يكون مما عرف أصله وأصل أصله، كمعاملة الحربيين بأخذ الأجر منهم على الخدمة والاشتراء مما بأيديهم فإن ما بأيديهم كله حلال لا معارضة فيه، فمن وجد السبيل إلى هذا وأمكنه فلا يعامل المسلم المجهول ما بيده بوجه من الوجوه، ولا يعامل إلا الكفار الحربيين لتمحض الحلال بأيديهم ولو أخذوا مال المسلمين، فمالهم كله حلال، ومعاملتهم حلال في غير الخيانة والأخذ بالأيمان الكاذبة والغدر فذلك حرام.

ثم إن لم يوجد هذا فيتنزل إلى ما عرف أصله فقط، كمن وجد كنزا من المال بصورة الجاهلية في أرض غير مملوكة، وكذا المعدن على هذه الصورة، والصيد، وغيره. ودون هذا في المرتبة ما جهل أصله، وعرف اختلاطه بأيدي كاسبيه، وله مراتب مفصلة في كتب الفروع.

وآخر مراتب الحلال، إذا عمت البلية في الأرض، ولم يجد المومن منه لقوته إلا الصورة المحرمة، وألجأه الحال إلى ذلك حل له أخذ قوته فقط كاقتيات الجائع من لحم الميتة والخنزير فقط والسلام.
×