مَا أنجَبَتْ خَودّ مِنَ الغَوانِي |
|
في كلّ ما مَضى مِنَ الزَّمَانِ |
كَمِثلِ أمّ شَيخنا الرَّباني |
|
عائشة الطَّاهرة الحَصانِ |
فَمَا لحَّوائِيَّة فَخْرّ كَما |
|
لَهَا بشَيْخِنا إمامِ العُلَما |
سِوَى اللَّواتِي جِئن بالمختار |
|
و حِزبه و صَحبهِ الأخيارِ |
إذْ أنجَبَتْ بهِ رِضاً مُسرَّدا |
|
مُهذَّباً مُمجَّداً مُسوَّدا |
مِنْ بَعْلِهَا ذِي الشَّرفِ الطِّيني |
|
و الشَّرفِ العِلميّ و الرِّينيّ |
محمَّدٍ نَجْلِ الفَتى المختارِ |
|
نَجلِ الرضي أحمدَ ذي الفَخارِ |
نجلِ المُفخَّمِ الإمامِ العالِم |
|
سيِّدِنا محمَّدِ بنِ سالِم |
(أنجبت) المرأةُ: أتت بنجيب أي كريم فائق لغيره.
و (الغواني): جمع غانية. قال في المصباح: "غنيت المرأةُ بزوجها عن غيره فهي غانيةٌ، مخففاً والجمع: الغواني" اهـ. و عليه قول الشاعر:
دَعَانِي الغَوَانِي عَمَّهُنَّ و خِلْتني |
|
لي اسم فلا أُدْعىٰ بهِ و هْوَ أوَّلُ |
وقيل: "الغانيةُ المرأة التي تُطْلَبُ ولا تَطْلُب"، و قيل: "الغنيةُ بحُسْنِها عن الزينةِ و التي غَنِيَتْ ببيت أبوَيْها و لم يقعْ عليها سباء، أو الشَّابةُ العفيفةُ ذاتُ زوجٍ أو لا" اهـ ذكره في «القاموس». و ذكر غيرُه أنها "المرأةُ اللَّطيفة الحَسَنة الخَلْق و الخُلْق" انتهى. و تصحُّ إرادة هذه المعاني هنا كلها أو جلها، إذ كلها من وصْفِ كلِّ حرةٍ كاملة.
و«ما» من قوله: (ما مضىى) واقعة على جزء، وعليه فكلُّ المضاف إليها يدلُّ على الاستغراق لسائر أجزاء الزمان الماضي لوقوع «ما» التي هي المضاف إليه على المفرد المنكر منها. والمراد في كل جزء مضى من أجزاء الزمان.
و (الزمان) كسحاب: اسم للعصر كزمن متحركة، ويطلقان على كثير الوقت و قليله كما في «القاموس» وغيره.
و ( المثل ) الشبه والنظير، ونحوه: المثيل، كأمير،
و (الأم) بالضم و قد تكسر: المراد بها هنا الوالدةُ.
و (عائشة) عَلَم أم الشيخ ، و هو بدلٌ من أم، أو عطف بيان عليه.
و(الطاهرة) وصف لها.
و كذا (الحصان) ومعناه العفيفة. و في «القاموس»: "و امرأة حَصَان كسحاب عفيفةٌ أو متزوجة" اهـ. و في كلام سيدنا حسَّان :
إلخ.
و (حوائية) منسوبة إلى أمّنا حواء.
و (الفخر) التمدح بخصال الكمال.
و الضمير في (لها) لأم الشيخ .
و (إمام العلماء) مقدَّم جماعتهم في تحقيق العلوم، و لا يكون كذلك إلاّ من كان جامعاً لعلم الدراسة و علم الوراثة، و الشيخ من ذلك بالمكانة التي لا تنكر.
و (سوى) هي بمعنى «غير»، و هي بالكسر وتضم.
و (جئن) أتين، أي غير اللواتي أتين.
(بالمختار) أي نبيّنا .
(و حزبه) : طائفتان إذ الحزبُ الطائفة، و المراد الأنبياء و المرسلون عليهم الصَّلاة والسَّلام.
(و صحبه) صحابته .
و «إذا» من قوله: (إذ أنجبتبت) ظرفية أو تعليلية، أي وقت إنجاب هذه أو لأنها أنجبت به .
و «رضا» وما بعده منصوبات على الحال من فاعل «أنجبت».
و«من» الجارة من قوله: (من بعلهاها) تتعلَّف بأنجبت.
و (البعل) هنا: الزوجُ.
و (الشرف الطيني) الشرف النسبي، وصَفَه به لأن نسبته السنية مرفوعة إلى سيّدنا محمد النفس الزكية.
و وصفه أيضاً ً بـ (الشرف العلمي) و (الشرف الديني)، لأنه كان من العلماء العاملين و الأولياء الواصلين .
و (محمد) بالفتح بدل من «بعلها» وهو الموصوف بما ذكر من أنواع الشرف.
و (النجل) هنا: الولَدُ و الفتى، أراد به هنا الكامل الفتوة التام النجدة.
و (المختار) اسم جد سيّدنا .
و (أحمد) هو جد والد سيدنا .
و وصفه ه بـ(ذي الفخار) أي صاحبه لجمعه بين طرائف المزايا، و تلائدها، وحيازته لأطراف أزر المجد و أخذه إياها من معاقدها لجمعه بين شرف الآباء والأجداد و شرف النفس و الأبناء و الأحفاد.
و (المفخم) المعظم إذ التفخيم التعظيم.
و (محمد) بالفتح: هو الموصوف بالمفخم، و بالولي العالم، و هو رابع أجداد سيدنا.
و (سالم) هو جده الخامس، فمن ينسب الشيخ إليه كأهل الصحراء و أهل تونس و غيرهم، فإنه ينسبه إلى خامس أجداده، و لعلَّ السبب في نسبه الشيخ إليه كون جده الرابع سيدي محمد بن سالم هو الذي استوطن عين ماضي أولاً من أجداده، فَجَرى على الانتساب إليه من بعده من ذريته و الله أعلم.
يقول رَحِمَهُ اللهُ تعالى ورضي عنه: ما أنجبت حرةٌ كريمة النَّسب ولا عقيلة جليلة الحسب في كل ما سلفَ من الأعصار إنجاباً كإنجابِ أم شيخنا القطب الرباني الجليل المقدار، ألا و هي العظيمة القدْرِ و الشأن، سيدتنا عائشة الطَّاهرة الحصان. فما لامرأةٍ من بنات أمّنا حواء و أبينا آدم فخرٌ يساوي فخرها بولادتها لهذا الإمام، غير النساء اللَّواتي أتين بنبيّنا المصطفى المختار، و حزبه الأنبياء عليه و عليهم صلوات الرب الغفار، و كذا اللواتي أتين بالصحابة الكرام ذوي المراتب العلية التي لا تدرَك و لا ترام. و ذلك لأنها أنجبت به جامعاً لأوصافِ العدالة، مستكملاً لنعوت الفضل و الجلالة، من بعْلِها الآخذ من كل نوع من أنواعِ المجد بطرف، المستوفي لكلِّ نوعٍ من أنواع السودد و الشرف، و هو سيدنا محمد فتحا نجل الفتى المعظم المقدار سيدنا المختار نجل الرضي مولانا أحمد ذي المزايا و الفخار، و هو نجل المفخَّم قدرُه صراحةً لا كناية سيدنا محمد فتحا بن سالم الجامع بين أعلى درجتي العلم و الولاية، و أرضاهم، و جعل الوجهَ الكريم متقلَّبهم و مثواهم آمين.
و قدَّم النَّاظمُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى أم الشيخ في الذكر تأدباً بآداب السنة الطاهرة. ففي «صحيح مسلم» من رواية جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَىٰ النَّبِيِّ قال: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ»(1) الحديث. و فيه التصريحُ بتقديم حق الأم في البر، فكان من الأدب تقديمها في الذكر في مثل هذا المقام. و هي الحرةُ العفيفة المصونة السيدة عائشة الطَّاهرة الميمونة بنت السيد الجليل الفاضل الأصيل أبي عبد الله سيدي محمد بن السنوسي التجاني المضاوي التجاني، نسبةً إلى قبيلة معروفة هنالك، و هم أخوالُ سيدنا ، غلبت عليه النسبة إليهم. و المضاوي: نسبةً إلى قرية عين ماضي، و هي قرية معروفة شهيرة من قرى الصحراء الشرقية من بلاد المغرب.
(و أما والده) فهو كما قاله في «جواهر المعاني» الشيخ الإمام كهف الإسلام أبو عبد الله سيدي محمد بن المختار. كان عالماً وَرِعاًً متبعاً للسنة، زاد في «الجامع» ذاكراً مدرساً للحديث و التفسير. و ذكر في "الجواهر" و كذا في "الجامع" أن الروحانية كانوا يأتونه و يطلبون منه تسخيرُهم في حوائجه، فكان يمتنعُ من ذلك و يقول لهم: "اتركُوني، لا تدخلوا بيني وبين الله تعالى، لا حاجة لي بالتعلُّق بسوى الله تعالى"، وكذا لا تأخذُه لومةُ لائم في الله تعالى. و كان له في دارهِ بيتٌ لذِكْر الله تعالى لا يدخلُه أحدٌ سواه .
و كانت وفاته هو وزوجته سيدتنا عائشة رحمهما الله تعالى في يوم واحدٍ بالطاعون عام ستة و ستين و مائة و ألف، و دفنا معاً في القرية المذكورة.
و ذكر في «الجواهر» و كذا في «الجامع» أجداده المذكورين في النظم، و هو:
- سيدنا المختار، و ذكر في «الجامع» أنه كان من أعيان قومه و كبرائهم،
- و سيدي أحمد، و ذكره في «الجامع» بوصف العلم و أن الشيخ أبا سالم العياشي رَحِمَهُ اللهُ تعالى حلاه بالعلم الكبير،
- و سيدي محمد بن سالم، و ذكره في
«الجواهر»
و كذا في «الجامع» بالعلم و الورع و التشديد في اتباع السنة، و أنه كان له بيت يختلي فيه للعبادة بداخل دارهِ لا يدخلُه غيرُه، و كان إذا خرج من داره إلى المسجد يتبرقع و لا يرى أحدٌ وجهَه حتى يدخلَ المسجد، ثم إذا خرجَ من المسجد يتبرقع كذلك أيضاً حتى يدخل خلوته. قال كلٌّ من صاحبي
«الجواهر» و
«الجامع»:
"سألت الشيخ عن سبب تبرقعه ذلك؟ فقال:
"لعله بلغَ مرتبةً في الولاية كل من بلغها يصير كل من رأى وجهه لا يقدِرُ على مفارقته طرفة عين، وإن فارقه مات من حينه، و هي مرتبة من أدركَ اثنين و سبعين علماً من العلوم المحمدية، و مكثَ فيها ثلاثاً و عشرين سنة". قيل
للشيخ : "هذه لمفاتيح الكنوزِ أو لغيرهم؟" قال
: "بل لغيرهم، و أما القطب و مفاتيح الكنوز لا يستترون لكمالهم" انتهى.
وبالجملة فجميعُ أسلاف سيدنا علماء عباد أتقياء زهّاد موصوفون بالإمامة العظمى و الولاية الكبرى عند أهل تلك البلاد، إلا أنهم كانوا لشدَّة اتباعهم للسنة يسترون ولايتهم بالعلم، فلا يعرفُهم بها إلاّ الخاصةُ بخلاف العلم.
وقد رأيتُ فيما كتب به الشيخ الإمام العلاَّمة الراوية الرحالة الهمام حجة المغرب على المشرق ومن هو في علماء زمانه تاج المفرق أبو سالم سيدي عبد الله العياشي إلى بعض إخوانه من علماء سجلماسة حين أزمعَ الرحلة قاصداً حجَّ بيت الله الحرام و زيارة قبر نبيه عليه الصلاة والسلام يوصيه بما يحتاج إليه في وجهته، وينبِّهه على ما يتأكّد التنبيه عليه في رحلته، فذكر له المراحلَ و البلاد، وذكر أهل كلِّ مرحلة و بلدة بأوصاف المقسوم لهم بين العباد حتى انتهى إلى ذكر عين ماضي بلدة سيدنا و مقرّ أسلافه رضي الله تعالى عنه و آبائه الكرام، فنوَّه بقدر من اشتملتْ عليه من الأعلام، ثم قال له: "فإذا حَلَلْتها فشحِّذ ذهنك لمذاكرة أهلها في كليات الفنون و جزئياتها، واستعدّ للجواب عما يلقونه عليكَ من مسائل منقولياتها و معقولياتها" في كلام وصَفَهم فيه بالتضلُّع من العلوم و نفوذ الإدراكات و الفهوم، و لم يحضرني الآن نصه، و لعلي أراجعه فأثبته في هذا المحل إن شاء الله تعالى بلفظه.
(تنبيهان: الأول)
(التنبيه الثاني)
(استدراك)
***
التنبيه الأول
-
ما تقدَّم لنا من تسخيرِ
الروحانية، منه ما يكون من
طريق الاستخداماتِ و
الاستنزالات المعروفة عند
أربابها، و هو طريقٌ مذموم، و
صاحبه على ألسنة الشرائع و
الحقائق مدنفٌ مَلُوم (1)،
بل هو طريقٌ مشؤوم، و صاحبه
مخذولٌ محروم، و هو سيء
العاقبة بلا شك، و العياذ
بالله تعالى. و
التسخيرُ من هذا الطريق
منزَّه عنه من كان من أمثال
والد الشيخ .
و منه ما يكون من طريق انقيادِ الكون بما احتوى عليه لمن أهَّله الله تعالى لبساط قربه و مشاهدته و اصطفاء لحضرة تخصيصه و عنايته. و هذا من باب كراماتِ الأولياء، و خرقِ العوائد لخاصَّة الأصفياء، إلا أن الزهد فيه وعدم الاكتراث به هو الكرامة الحقيقية الخاصة بخاصَّةِ الخاصة من عباد الله الأتقياء الأبرياء. و هذه الحالة هي اللاَّئقةُ بمقام والدي الشيخ ، و هي حالة أهل التمكين المخصوصين من الله تعالى برسوخ القدم في مقامات اليقين. و هي لهم بحكم الإرث من سيد المرسلين وإمام المتقين ، حيث عرض عليه أن تجعل له جبال تهامة ذهباً تسير معه حيث سارَ، فأبى إلاَّ العبودية و الاضطرارَ و لزومَ العَجْزِ و الافتقار. و سيأتي لنا بعض ما يتعلَّق بصحبة الجانِ إن شاء الله تعالى.
التنبيه الثاني
-
كثيراً ما يجري في كلام سيدنا
الشيخ التعبير
بـ «مفاتيح
الكنوز»،
و الظاهر أنه يعبر
بذلك عن الأفراد الخارجين
عن حكم القطب. لكن
وَقَع في كلام العارف
بالله سيدي عبد
الرحمٰن الشامي ما
يؤذن بأن مفاتيح الكنوز
غير الأفراد، فانظره
والله أعلم.
و قد سُئل أيّهما أعلى مقاماً هل القطبُ أو الواحد من مفاتيح الكنوز؟ فأجابَ بأن مقام القطب أعلى من مقاماتهم من جهة و مقامهم أعلى من جهة. و انظر الجواب بنصِّه في «جواهر المعاني» و هو صريحٌ في وصف الأفراد حسبما هو في «الفتوحات المكية» و غيرها من كتب المحققين.
نعم وَقَع في «جواهر المعاني» عند ذكر مؤلفه رَحِمَهُ اللهُ تعالى لمرائي الشيخ و مبشراته ما يشيرُ إلى أن للقطب خصوصيةً لا ينالها غيره لا من الأفراد و لا من غيرهم، و أنه من أجل هذه الخصوصية صار يطلبُ مقام القطبانية بعد أن كان يطلبُ مقام الفردانية قبل أن يطلع على الخصوصية المذكورة. فبلغه الله تعالى بفضله غاية مُناه، و أولاه من خزائن جُودهِ ما قرَّت به عيناه حسبما سيأتي ذكر بعض ذلك مفصّلاً إن شاء الله تعالى.
استدراك
-
ما تقدَّم لنا عند قول
النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ
تعالى «الشرف الطيني» من أن
نسب الشيخ يتَّصل
بسيدنا محمد
النفس الزكية ابن
مولانا عبد
الله الكامل ابن
مولانا الحسن
المثنى ابن
مولاناالحسن
السبط ابن
مولانا عليّ
بن أبي طالب، و
مولاتنا فاطمة
الزهراء رضي
الله عن جميعهم و نفعنا
بمحبَّتهم.
ذكر في "جواهر المعاني" أن الشيخ وَجَدَ هذا النَّسب الشريف محوزاً لآبائه و سلفه بالحوز التام، و مع ذلك كان في ذلك الوقت لا يرفع به رأساً و لا يعلل به نفساً، لما كان عليه من شدة التعشق بالترقي إلى المقامات العالية، و المراتب القصوى السامية، حتى خاطبه في ذلك يقظةً لا مناماً بقوله: "أنتَ ولدي حقّاً"، كرَّرها له ثلاثاً تأكيداً لما خاطبه به، ثم أردفَ ذلك التأكيدَ بما يقوِّيه و يرفع الاحتمالَ فيه، بأن قال له "نسَبُك إلى الحسن بن علي صحيح"، فعند ذلك صار يذكر في سياق التعريف بنفسه هذا النسب السنيّ، فيكتب بيده المباركة «أحمد بن محمد التجاني الحسني»، حسبما شاهدناه متعدداً بخط يدِه فيما وقفنا عليه من الرسائل و الإجازات و التقييدات و الوجادات و أرضاه و متعنا و محبيه برضاه آمين.