في بيان فضيلة حسن الإستماع
وبعض ما يختص به الآداب الموصلة بفضل الله تعالى
إلى طريق الفضل وكمال الإنتفاع
اعلم أن هذا المطلب في طريق أهل الله تعالى من أجلِّ المطالب قدراً وأعظمها فائدة وأسناها فخراً، وذلك لأن حُسْنَ الإستماع، كما قيل، أساسُكل خير وسعادة،ومرقاة سامية لإدراك كل مرامة وإفادة. فما أجدَره بالتقدُّم أمام جميع الوسائل والمطالب، وما أحقه بأن تُناطَ به جميعُ مباحث المقاصد والرغائب. واعتبار هذا على الجملة في بساط التحقيق فيما ذكره أئمة الهدى وأعلام الطريق من أنه لم يظهر وجود طريق السعادة ولا علم الفرق بينهما وبين طريق الشقاء إلا بالقول الإلهي والسمع الكوني.
قالوا: "فما ثم إلا قولٌ وسمع، غير هذين لم يكنْ، فلولا القولُ ما عُلم مرادُ الحقِّ سبحانه منا، ولولا السمعُ ما وصلنا إلى ما قيل لنا. فأولُ شيء علمناه من الحقِّ القول منه والسمع منا، وقد قدَّم سبحانه في كتابه الحكيم "السميعَ" على "العليم" وعلى "البصير"، فقال تعالى [سَمِيع ٌعَلِيمٌ](التَّوبة: الآية 98)[سَمِيعٌ بَصِيرٌ](الحَجَ: الآية 61)،فافهم.
ولهذا الأمر الأكيد جعلنا هذا المطلبَ من جملة المطالبِ بين يدي المقصود من هذا التقييد، فنقول معتمدين على مَدَدِ من له القوةُ والحول، طامعين في فضل من ليس إلا منه المنة والطول:
قال العارف بالله تعالى الشيخ أبو حفص السهروردي : "قال سفيان بن عيينة(1) رضي الله تعالى عنه: "أولُ العلم الإستماعُ، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر"اهـ. يريد أن أولَ العلمِ حسنُ الإستماع بدليل ترتّب الفهم عليه، إذ الفهم إنما يحصلُ بحسن الإستماعلا بمجرد الإستماع، فافهم.
وقد قيل في قوله تعالى ]وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ[(طَه: الآية 114)وقوله تعالى ]لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ[(القِيَامَة: الآية 16)الآيتين، أن في ذلكتعليماً من الله تعالى لرسوله حسن سن سن الإستماع. وقال بعضهم: "تعلَّمْ حسن الإستماع كما تتعلَّم حسنَ الكلام "اهـ.
وحسن الإستماع يكون بكمال الأدب فيه.وقال يوسف بن الحسين: "بالأدبِ يُفْهَم العلمُ وبالعلم يصحُّ العمل، وبالعمل تُنال الحكمة، وبالحكمة يقام الزهدُ، وبالزهد تتركُ الدنيا، وبتركِ الدنيا يرغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة تنال الرحمة عند الله تعالى" اهـ.
فعلم من قوله «بالأدب يفهم العلم» أن حسنَ الإستماع يحصلُ بكمال الأدب في الظاهر والباطن: - فأما كمالُ الأدب في الباطن فيكون بإخلاص النية في القصد إلى الإستماع، وبتطهير المحلِّ بالتوبة والإستغفار، وبتحقيق الإفتقار إلى الله واللجأ إليه، وسؤاله بلسان الإضطرار أن يعلِّمه ما لم يكن يعلم.
- وعن كمال الأدب في الباطن ينشأ كمال الأدب في الظاهر عند المحققين من أهل الطريق، فينشأ عما تقدَّم من كمال الأدب في الباطن الهيبة والوقار وخشوع الجوارح والسكون والتفرغ من الشواغل، ونحو ذلك مما هو عنوان حسن الأدب في الباطن.
وقد حكي أن الشيخ أبا حفص النيسابوري لما وَرَد العراقَ، وجاءَ إليه الجنيد فرأى أصحابَ أبي حفص وقوفاً على رأسه يأتمرون لأمرِه ولا يخطئ أحدٌ منهم. فقال:"يا أبا حفص أَدَّبْتَ أصحابكَ أدبَ الملوكِ"، فقال أبو حفْص: "لا يا أبا القاسم، ولكن حسنُ الأدب في الظاهر عنوانُ حسنِ الأدب في الباطن" اهـ.
ويشهد به حديثُ «لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لخَشَعَتْ جَوَارِحُه» الحديث.
فتحصَّل أن حسن الإستماع إنما يكونُ بكمال الإستعداد لذلك بحسب مقام المستمع في ذلك وحاله.ثم هذا إنما هو في الأصل عند أهل هذا الشأن في سماع كلام الله تعالى وكلام رسوله اللَّذين لا تنقضي فوائدهما، ولا تنفد على مرِّ الدهر عجائبهما.
وألْحَقَ أئمةُ المشايخِ بسماع القرآن العظيم والحديث الشريف مطالعةَ الكتبِ المتضمِّنة لما استنبط منهما بطريق التعريف من العلوم السنية والنور البديع والسر المنيف.
ومما يشيرُ إلى أن حسن الإستماع إنما يكون بالإستعداد قوله سبحانه وتعالى [وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ ۖ ](الأنفال: الآية 23). قال بعضهم: "لو علِمهم أهلاً للإستماع لفَتَح آذانهم للإستماع، فمن تملَّكته الوساوسُ وغلب على باطنه حديث النفس لا يقدرُ على حسن الإستماع" اهـ.
ويشير إلى هذا أيضاً قوله تعالى:]إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[(ق:الآية 37). قال الفخر الرازي(2) في "تفسير"ـه: "أي قلب موصوف بالوعي، أي قلب واعٍ. يقال: "فلان له مالٌ"، أي كثير، فالتنكيرُ يدلُّ على معنى في الكمال"اهـ الغرض منه، وفيه الإشارة إلى ما ذكرناه من الإستعداد.
قال في "العوارف":"قال يحيى بن معاذ الرازي: "القلبُ قلبان، قلبٌ قد احْتَشَى بأشغال الدنيا حتى إذا حَضَر أمرٌ من أمور الطاعة لم يدْرِ ما يصنع، وقلب قد احتشى بأشغالِ الآخرة حتى إذا حضرَ أمرٌ من أمور الدنيا لم يدْرِ ما يصنع"" اهـ. وهذا القلب الثاني هو الذي حصلَ له الإستعداد لدركِ العلوم الفاخرةِ وفهم الأسرار الباهرة.
وقال بعضهم في الآية: "لمن كان له قلبٌ سليم من الأغراضِ والأمراض".
وقال ابن سمعون في الآية: "لمن كانَ له قلبٌ سليم يعرِفُ آدابَ الخدمة. وآدابُ القلب ثلاثة أشياء:
- فالقلب إذا ذاقَ طعمَ العبادةِ أعتق من رقِّ الشهوةِ، فمن توقَّف عن شهوتِه وجد ثلثَ الأدب،- ومن افتقر إلى ما لم يجدْ من الأدبِ بعد الإشتغال بما وجد فقدْ وَجَدَ ثلثَي الأدب،
- والثالثُ امتلاءُ القلب بالذي بدأ بالفضل منه تفضلاً "اهـ.
وقد قال محمد بن علي الترمذي رحمه الله تعالى: "موتُ القلبِ من شهوات النفس، فكلما رفضَ شهوةً نال من الحياة بقِسْطها، والسماع للأحياء لا للأموات. قال تعالى [إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ ](النَّمل: الآية 80)الآية" اهـ.ومدار هذه العبارات كلِّها على حصولِ كمال الإستعداد للسماع حسبما تقدَّمت الإشارة إليه، فالعبد إذا حصَلَ له الإستعداد للسماع، واتصف بالحياة التي يتأَهَّل بها عند الله للإستماع، سمع كلامَ الله تعالى وكلام رسوله وكذا ما استنبط منهما حقّ السماع، وحظي في جميع معاملاته بأكمل حالات الإتباع، كما قال تعالى [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ](الزمر: 18). قالوا: "وفي هذه الآية الكريمة التصريح بالثناء على المتصفين بحسن الإستماع الناشىءعنه حسن الإتباع بأنهم الذين هداهم الله وأنهم هم أولو الألباب". وناهيك بهذا فخراً لمن أهَّله الله تعالىلهذه المزيةِ العظيمة والخصوصية الجسيمة.
(تنببهان)
(تكميل)
وفي هذا القدر من الكلام في حسن الإستماع كفايةٌ في التوصُّلِ إلى باب الإضطلاع. وبالله التوفيق، وعليه الإعتماد في الهداية إلى سواء الطريق.
(2) فخر الدين الرازي السامانوي ثم الدهلوي، فاضل من علماء الهند أصله من سامانة، قرأ في دهلي وتصوف وحج، وأخذ الحديث عن علماء بغداد في عودته ورجع إلى الهند، فركب البحر فغرق سنة 748 هـ. انظر "نزهة الخواطر": 2/103.
تنبيهان
[الأول]:إذا عرفتَ أن مطالعة كتب العلم والأخبار وسِيَر الصالحين وحكاياتهم وأنواع الحكم والأمثال ونحو ذلك، كلُّها ملحَقَة بالسماع في هذا الباب، فاعلمْ أن من الأدب في هذا المقام ما ذكره في "عوارف المعارف" من أن "الإنسان إذا أراد مطالعة كتابٍ لا يبادر بذلك إلا بعد التثبُّت والإنابة والرجوع إلى الله تعالى وطلب التأييد فيه، فإنه يرْزَقُ حينئذٍ بالمطالعة ما يكون مزيداً لحاله"
قال: "ولو قدَّم الإستخارة لذلك لكان حسناً، فإن الله تعالى يفتح عليه بابَ الفهم والتفهُّم موهبةً من الله تعالى زيادة على ما يتبيَّنه من صورة العلم. فللعلم صورةٌ ظاهرة وسرٌّ باطن هو الفهم. والله تعالى قد نبَّه على شرف الفهم في قوله: [فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ ](الأنبياء:79)فأشار سبحانه وتعالى إلى الفهم بمزيد اختصاصٍ وتمييز عن الحكم والعلم. وقد قال الله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ۖ ](فَاطِر: الآية 22)فإذا كان المسمع هو الله تعالى، فإنه يسمع تارةً بواسطة اللسان، أي لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام ومن معناهم من ورثتهم، وتارةً في مطالعة الكتب من التبيان. فصارَ ما يفتحُ الله به في مطالعة الكتبِ على معنى ما يرزقُ من المسموع ببركة حسن الإستماع، فليتفقَّد العبدُ حاله في ذلك، وليتعلَّم علمَه وأدبَه، فإنه بابٌ كبير من أبواب الخير، وعملٌ صالح من أعمال المشايخ لاستفتاح أبواب الرحمة، والمزيد من كل سرٍّ بفضل الله تعالى" اهـ.
ومن بعض كتب حُجَّة الإسلام الإمام الغزالي في وصيَّةٍ أوضحها ونصيحة محَضَها(1) ما نصه: "أيها الطالبُ للعلومِ والناظر في التصانيف، والمستشرفُ على كلام الناس وكتب الحكمة، ليكُنْ نظرُك فيه بالله ولله وفي الله، لأنه إن لم يكن نظرُك به وكَّلك إلى نفسِكَ أو إلى من جَعلْتَ نظرَك به. وكذلك إن لم يكن نظرُك له فقد صار عملُك لغيرِه ]فَمَنْ كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَلِحاًوَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّه أَبَداً أحَدَاً[(الكهف: الآية 110)،وكذلك إن لم يكن نظرك له فيه فقد أثبتَّ معه غيره، ولاحظت بالحقيقة سواه. وإذا نظرت في كلام أحدٍ من الناس ممن قد شُهر بالعلم، فلا تنظرْ بازدراء، ولا تقطعْ له بصحَّةٍ ولا تقطع عليه بفساد، وليكن تحسينُ الظن أغلبَ عليك حتى يزول الإشكالُ عنك بما تتيقن من معانيه، وإذا رأيتَ له حسنة وسيئة فانشر الحسنة واطلب المعاذير للسيئة، ولكل عالم عذرٌ، وله في بعض ما يأتي به احتجاج. وناهيك بما جرى بين ولي الله تعالى الخضر وكليمه موسى عليهما السلام. وإذا ظهرَ لك من كلام عالم إشكالٌ يؤذن في الظاهر بمحال أو اختلال، فخذ ما ظهر لك علمُه ودعْ ما اعتاص(2) عليك فهمه، ووكِّلْ العلمَ فيه إلى الله تعالى، فهذه وصيتي فاحفظها"، اهـ بنقل بعضِ الفقهاء له في نوازله، رحمه الله تعالى، وجزاه خيراً.
[فائدة] مما ينبغي أن يعتني به مريدُ المطالعة لكتب العلم أن يقولَ قبل الشروع بحضور قلب: "اللهمَّ إني أستودِعُك جميعَ ما أنظرُه في هذا الكتاب حتى تردَّهُ علي في وقتِ احتياجي إليه"، وهو غاية في الحفظ والوعي بفضل الله تعالى. وقد كنت أعملُ عليه منذ استفدته فيما أطالعه من الكتب، وكذا إذا جلستُ إلى أحدٍ من الفضلاء بقصْدِ المذاكرة فأقولُ فيهما: "اللهم إني استودعكَ جميعَ ما أستفيدُه من هذا السيدِ أو من هذا المجلس حتى تردَّه علي..."الخ، فكنت أجد بحمد الله بركةَ ذلك مع ضعفِ استعدادي وعدم تأهُّلي من فضل الله تعالى:
لم أكُنْ للوِصالِ أهْلاً ولَكِنْ |
|
أنتم بـالـوِصالِ أطْمَعْتُمـونـي" |
[التنبيه الثاني]
من الأدب في هذا المقام أيضاً ما ذكره في "العوارف" أيضاً، وهو أن "العبدَ إذا أراد أن يطالع شيئاً من الحديث والأخبار يعلم أنه قد تكون مطالعةُ ذلك بداعية النفس وقلةِ صبرها على الذكر والتلاوة والعمل، فيتروَّح بالمطالعة كما يتروَّح بمجالسة الناس ومكالمتهم، فليتفقد الفَطِنُ نفسَه في ذلكَ، ولا يستحلي مطالعةَ الكتب إلى حدٍّ يأخذ من وقته" اهـ.
قلت: وعلى هذا الأدب رأيتُ عملَ بعض الفضلاء الأعيان من خاصة أصحابنا الموفَّقين حفظه الله تعالى، وقد استعانَ على ذلك بضابطٍ حسن، وهو أنه جزَّأَ أوقاته الليليةَ والنهارية، فجعل جزءاً للتدريس، وجزءاً لمطالعته، وجزءاً لإقامة أوْرادِه، وجزءاً لنومه، وهكذا سائر الأعمال المتعاقبة بالليل والنهار، فلمْ يكنْ يأخذ شيئاً منها بوقته، وهو كما لا يخفى نظر سديد، لا يصدرُ إلا عن رأي رشيد مؤيَّد بالعناية والتوفيق من الربِّ المجيد.
(2)اعتاص: صعب وأشكل فهمه.
تكميل
قد مثَّل بعضُ الحكماءِ تفاوتَ الناس في الإستماع فقال:
"كالباذر
خَرَجَ ببَذرِه فملأ منه كفَّه:
- ووقع منه شيء على الصفوانِ وهو الحجر الأملس عليه ترابٌ يسيرٌ وندًى قليل، فنبت حتى إذا وصلت عروقه إلى الصفوان لم يجدْ مساغاً ينفدُ فيه فيبس،
- ووقع منه شيءٌ على أرضٍ طيبة فيها شوكٌ ثابت فنبتَ، فلما ارتفعَ خنقه الشوكُ فأفسدَه واختلطَ به،
- ووقع منه شيءٌ على أرض طيبة ليس على ظهر الطريق ولا على الصفوان ولا على أرضٍ فيها شوك فنبتَ ونما وصلح.
فَمَثَلُ الباذرِ مثلُ الحكيم، ومثل البذْرِ كمثل صواب الكلام،
- ومثل ما وَقَع على ظهر الطريق مثل الرجل يسمَعُ الكلامَ، وهو لا يريدُ أن يسمَعه، فما يلبثُ الشيطان أن يختطفَه من قلبه فينساه،
- ومثل الذي وَقَع على الصفوان مثل الرجل يستمعُ الكلام فيستحسنه، ثم تفضي الكلمةُ إلى قلبٍ ليس فيه عزمٌ على العمل فينسخ من قلبه،
- ومثل الذي وقع في أرضٍ طيبة فيها شوكٌ مثل الذي يستمع إلى الكلام، وهو ينوي أن يعمل به، فإذا اعترضت له الشهوةُ قيَّدتْه عن النهوضِ بالعمل فترَكَ ما نوى عملَه لغلبة الشهوة، كالزرع يختنق بالشوك،
- ومثل الذي وقَع في أرض طيبة ليس على ظهر الطريق ولا على الصفوان ولا على ذات شوك مثل المستمع الذي ينوي عمله، فيفهمه ويعملُ به ويجانب هواه" اهـ.
وإنما هذا يحصلُ بالإستعداد والبراءة من الشهوة والهوى، كما تقدمت الإشارة إليه. وبيان هذا أن للشهوة والهوى حلاوةً قد أشربت لذتها النفس، فهي تركُن إليها. وتلك اللذة هي التي تخنق النبتَ كالشوك. وعندما يحصلُ الإستعداد باحتراق الشهوات والهوى بنار الذكر ينازلُ القلبَ حلاوةُ الحبِّ الإلهي القلب. والحب الإلهي يعلق الروح بالحضرة القدسية. ومن قوَّة انجذاب الروح إلى الحضرة الإلهية بداعية الحبِّ الصرف يستتبع الروح والنفس وحلاوة الحبِّ للحضرة الإلهية تغلب حلاوةَ الهوى. لأن حلاوةَ الهوى ]كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِالأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ[(إبراهيم:الآية 26) لكونها لا ترتقي عن النفس، وحلاوة الحب الإلهي ]كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَافِي السَّمَآءِ[(إبراهيم: الآية24)فإذا سمع هذا الذي حصَل له الإستعداد للكلمة من كلام الله ورسوله يتشرَّبها بالروح والقلب والنفس ويقويها بكليته ويقول:
أشمُّ مِنْكَ نَسيـماً لسْـتُ أَعْرِفُه |
|
كَأَنَّ لمياءَ جَـرَّت فِـيكَ أذْيـالا |
فتعمُّه الكلمة وتشمله ويصيرُ كلُّ شعرةٍ منه سمعاً، وكلُّ ذرة منه بصراً، فيسمع الكل بالكل ويقول:
إِنْ تـأمَّـلْتُكُم فـكُـلِّـي عُـيـونٌ |
|
أو تَـــذَكَّـــرْتُكــم فـكُــلِّــي قُــلُــوبُ |