في الإشارة إلى نبذة من آداب الحضرة العلية
وبعض ما اتَّصف به من ذلك أهل المراتب السنية
اعلم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الذين هم صفوةُ الله تعالى من البرية،أكملُ الناس آداباً مع الحضرة المقدسة العلية، وأتم قياماً بحقوقها ووظائفها المرعية، من سائر من عداهم من أهل المراتب السنية، حسبما نطَقَ به القرآن العظيم وأفصحتْ به آياتُ الذكر الحكيم.
قال مولانا جلَّ جلاله فيما خاطبَ به حبيبه المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم « وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم » [القَلَم: الآية4].
قال في "العوارف": قال مجاهد(1): "أي على دينٍ عظيم. والدين مجموع الأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة".
وقال الحسن(2): "لأنك لم يؤثر فيك جفاء الخلق مع مطالعة الحق" اهـ. وهذا غايةٌ في كمال أدبه. وقال الواسطي: "الخلقُ العظيم أن لاتخاصِمَ ولا تخاصَم". وقال أيضا: "لأنك قبلتَ ما أسديت إليك من نُعمَى أحسَن مما قبله غيرُك من الأنبياء والرسل".
وقال الجنيد: "لأنه لم يكن له همةٌ في سوى الله تعالى،ولا محالة أن من كان بهذه المثابة كان أجمعَ لمكارم الأخلاق ومحاسن الآدابِ على الوجْه الأكمل".
وقيلفي تفسير هذه الآية الكريمة غير هذا. فقيل: "لأنه عاشَرَ الخلقَ بخُلُقِه وباينهم بقلبه". وقيل: "سمَّى خُلُقَه عظيماًلاجتماع مكارمِ الأخلاق فيه" اهـ.
وقد تقدَّم لنا في حقيقة الأدب أنه الجامعُ لمكارم الأخلاق ومحاسن الفعال والخلال، على أحسن ما يكون من وجوه الكمال. والآية الكريمة على مجموع هذا التفسير دالّة على ذلك أتمَّ دلالة وأوضحها.فهي إخبار من الله تعالى بأن حبيبه مَجْمَعُ الآدابِ ظاهراً وباطناً، وأنه أكملُ الخلْقِ أدباً وأتمهم قياماً مع الحقِّ ومع الخلق، على الوجه الذي يدركه غيره، والله تعالى أعلم.
وقال مولانا جلَّ عُلاه « مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ(17) »(النّجْم: الآية 17).وفي هذه الآية الكريمة أيضاً إخبارٌ من المولى الكريم الأعظم عن كمال أدبِ حبيبه الأكرم .
قال في "العوارف": "وهذه غامضةٌ من غوامض الأدب، اختصَّ بها ".ثم قرَّرها بما ملخَّصه " أنه لكمال اعتدال قلبه المقدَّس في الإعراض والإقبال، كان حاله في كلا الطرفين على أتمِّ الأحوال. فكما أعرضَ عن كلِّ ما سوى الله تعالى أتم إعراضٍ وأكمله، فكذلك أقبلَ عليه سبحانه وتعالى أحسنَ إقبال وأجملَه. فترك في إعراضه الأرضين والسموات وما فيهن من وراء ظهره ولم يزغْ بصرُه، ولا التفت إلى شيء مما أعرض عنه، ولا لَحِقَه الأسفُ عليه في سِرِّه ولا جهره.وأدرك في إقباله، مما وَرَد عليه في مقام قابَ قوسَين،من المنَحِ والمواهب والأسرار، ما لا تحيطُ به العقولُ ولا تكيِّفه الأفكار. فلم يطغَ بالإنبساط، ولاأخلَّ بشيءٍ من آداب جلالة البساط. وذلك أنه تَلقَّى تلك المواهَب التي وردت عليه من حضرة الربِّ في حجالٍ من حيائه وخفارةٍ من أدبه، بالروح والقلب. ثم فرَّ من الله تعالى هيبةً وإجلالاً، فطوى نفسه بفراره في مطاوي انكساره وافتقاره، لئلا تنبسط النفسُ بالإستغناء، كما قال تعالى « كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ (7) »(العلق: 6-7).ولا شك أن الإنبساط من العبيد يسدُّ بابَ المزيد.وهذا الفرار بالنفس،على ما وصفناه، هو الفرارُ من الله تعالى إلى الله، وهو نهاية الأدب.وقد حظي منه بما لم يحظَ به أحدٌ قبلَه ولا بعدَه من أهل الرتب.فدامَ له من ربِّه سبحانه وتعالى المزيد، ونال منه غاية الأرب".اهـ ما لخص من "العوارف".
ونقلفيها بعدَه عن سهل بن عبد الله(3) أنه قال في الآية الشريفة: "لم يرجع إلى نفسه ولا إلى مشاهدة أوصافها، وإنما كان مشاهداً بكليته لربِّه، يشهد ما يظهرُ عليه من الصفات التي أوجبتْ له الثبوتَ في ذلك المحل".قال صاحب "العوارف": "وهذا الكلامُ لمن اعتبره موافق لما شرحناه برمز في ذلك من سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى و" اهـ.
وقالالشيخ محيي الدين فيما يتعلق بمعنى الآية الكريمة ما نصه: "من أدبِ من يجالس الأكابرَ الهيبةُ والوقار،فلا يلتفت ولا يشغل سرَّه بمشاهدةِ غير جليسه. ومن شأنِه عصمةُ قلبِه من الخواطر، وعقلِه من الأفكار، وجوارحِه من الحركات، وعدم التمييز بين الحسن والقبيح، ويجمعُ أعضاءه اجتماعاً يسمع له أزيز كأزيزِ القدْرِ الذي يغلي على النار.ومن شأنه أن لا يحصلَ له عند المباسطة إدلالٌ، قال تعالى« مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ(17) »(النّجْم:الآية 17)"اهـ. فأشار في هذا الكلام إلى جملةٍ من آداب الحضرة مما تشير إليه هذه الآية الشريفة.
وبالجملة فهذه الآية الكريمة قد دلَّت على ما يضيق عنه نطاقُ التعبير من كمال أدبه الدالِّ على كمال معرفته بربِّه سبحانه، المعرفة التي لا مطمع فيها لأحدٍ من الخلق كائناً من كان. وقد قيل: "أدبُ الإنسانِ دليلٌ على قدرِ اتساعِ دائرتِه في مقام العرفان".
وقد قيل في معنى الآية الكريمة غير هذا مما لا يمكننا في هذه العجالة استيفاؤه.وللمشايخ الكمل من العبارات في كمال أدبه مع الحضرة الإلهية ما لا يكادُ يدرَك حصرُه ولا استقصاؤه. وعلى هاتين الآيتين الكريمتين مدارُ كلامِ من عبَّر عن ذلك من فحول الطريقتين.
ومن أجمع العبارات وأوعبها في هذا الباب عبارةُ شيخنا قطب الأقطاب وأرضاه، ونفعنا وسائرَ الأحبة برضاه، ونصُّها كما في "جواهر المعاني": "اعلم أنه لما كملَ خلوصُه إلى أوطانِ القرب والتمكينِ من حضْرَةِ الله تعالى التي لا مطْمَعَ فيها لغيره، كان قائماً فيها بتكميل الأدب وتكميل الأرب وتكميل وظائف الخدمة في كلِّ ما برز وما يبرز من الحضرة من الأسرار والتوقعات والتجليات في ظاهر العلم وباطنه وباطن الحضرة الإلهية.فلا يفترُ عن ذلك مقدارَ طرفة عين، ولا يقعُ منه التفريط في حقِّ من حقوق التجليات. كلما برزَ من التجليات شيءٌ على كثرتها وعدم نهايتها يعطيه حقَّه من العبودية من غير إخلالٍ ولا ضعفٍ ولا تزحزح ما عن موقف الكمال. فإن أطوارَالوجودِ بكل ما تطور به من خيرٍ أو شر أو جلب أو دفع أو إعطاء أو منع أو تحريك أو تسكين أو تلوين إلى سائر أقسام التطورات مما يعرفه العامة في ظواهر الوجود،وما يتطور في بواطن الوجود من الإرادات والتخيلات والتوهمات والخواطر والأفكار، كلّ ذلك تجليات الحق سبحانه وتعالى بآثار صفاته وأسمائه ما ثم غيره سبحانه وتعالى في كلِّ ما سمعت. وهو في موقف كماله دائماً أبداً سرمداً يعطي جميع التجليات حقَّها ويوفي أدبها، وهو في كل ذلك لله وبالله". انتهى كلام سيدنا بلفظه في"جواهر المعاني".
ويكفيهذا القدرُ الذي ذكرناه في هذا المحل مما أشارتْ إليه الآيات القرآنية من كمال أدب نبينا مع الحضرة الربانية.
ومما ذكروه في هذا المقام،من آدابه وآداب غيره من الأنبياء الكرام عليه وعلى جميعهم من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام،آدابهم الظاهرة القولية التي هي رشحة آدابهم الباطنية القلبية.
وذلك مثل ما روي عن نبينا من قوله «زُوِيَتْ لي الأرضُ فأرِيتُ مَشَارِقَ الأرْضِ ومَغَارِبَها»(4)، قالوا: "قد حفظ أدبَ الحضرةِ حيث لم يقلْ: فرأيتُ.
ومثل قوله سبحانه وتعالى حكايةً عن نبيه أيوب عليه الصلاة والسلام « أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ »(الأنبياء: 83).قال الأستاذ أبو علي الدقاق : "قد حفظ نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام أدب الحضرةِ حيث لم يقل: ارحمني.
ومثل قوله تبارك وتعالى حكايةً عن نبيه عيسى « إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ »(المَائدة: الآية116).قالالشيوخ: "قد حفظ نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام أدبَ الحضرةِ، حيث لم يقلْ: لم أقله. إلى غير ذلك من الآي الكريمة الدالة على آدابهم الفخيمة، على جميعهم وعلى آل كلِّ من المولى الكريم البر الرحيم أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وأكملُ الناس اقتداءً بهم في هذا المقام الصحابةُ الكرام ونفعنا بمحبتهم جميعاً. ومما أثبتوه من ذل قولُمولاتنا عائشة الصديقية رضي الله عنهالمن سألها عن خلقِ رسول لله : «كانَ خُلُقُه القُرآن»(5). قال في"العوارف": لا يبعد والله أعلم أن قولَ عائشة رضي الله عنها«كان خلقه القرآن»رمزٌ غامضٌ وإيماء خفي إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمتْ رضي الله عنها الحضرةَ الإلهية من أن تقولَ كان متخلِّقاً بأخلاقِ الله تعالى، فعبَّرت عن المعنى بقولها«كان خلقه القرآن» استحياءً من سبحات الجلال" اهـ .
- [تنبيه]
- [إلحاق]
وفي هذا القدر مما رمنا الإشارة إليه في هذا المطلب كفاية، والله ولي التوفيق والهداية.
(2)هو الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، تابعي، كان إمام أهل البصرة وحبر الأمة في زمنه، وهو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النساك. ولد بالمدينة سنة 21هـ، وشب في كنف علي بن أبي طالب، عظمت هيبته في القلوب فكان يدخل على الولاة فيأمرهم وينهاهم، لا يخاف في الحق لومة لائم، وله مع الحجاج مواقف. مات سنة 110هـ. انظر "ميزان الاعتدال": 1/254، و "حلية الأولياء": 2/131، و "ذيل المذيل": 93، و "أمالي المرتضى": 1/106.
(3)سهل بن عبد الله بن يوسف التستري، أبو محمد، أحد أئمة الصوفية وعلمائهم والمتكلمين في علوم الإخلاص والرياضيات وعيوب الأفعال، له كتاب في تفسير القرآن. مات سنة 283 هـ. انظر "طبقات الصوفية": 206، و "الوفيات": 1/218، و "حلية الأولياء": 10/189. «لسان الميزان»: 5/300.
(4)هو الحديث «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها... إلخ». رواه مسلم في (الفتن: 19)، وأبو داود في (الفتن 1)، والترمذي في (الفتن: 14)، وابن ماجة في (الفتن: 9)..
(5)رواه مسلم في (المسافرين: 139).
[تنبيه]
كثيراً ما يجري في إطلاقات الأكابر كالشيخ محيي الدين ، وكذا غيره من الأكابر كشيخنا ، حسبما ستقف على بعضِه في هذا الكتاب إن شاء الله ذكر التخلُّق بالأخلاق الإلهية. ومعنى ذلك عند المحققين أن العبدَ يأخذُ من بعض الأسماء الحسنى والصفات العليا وصفاً يلائمُ ضعفَ البشر وقصوره، مثل أن يأخذَ من الإسم«الرحيم» وصفاً من الرحمة على قدر ضعفِ البشر وقصوره، وهكذا في سائر الأسماء التي يصحُّ التخلُّق بها للعبد. وكل إشارات العارفين في الأسماء والصفات التي هي أعزّ علومهم على هذا المعنى وهذا التفسير.فليحذر العبدُ أن يميلَ بقصور فهْمه وتخيلات وهمه إلى شيء مما يعطيه ظاهر عبارات الكمّل ، من الحلول والإتحاد(1)، فيجرُّه ذلك والعياذ بالله تعالى إلى الزندقة والإلحاد.
ومن هذه الآداب التي اتصفَ بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واقتدى بهم فيها أتمَّ اقتداءٍ أكابرُ الصحابة الكرام، أخَذَ أهلُ الطريق آدابهم، ومن أنوارهم اقتبسوها، وعلى مذاهبهم المكينة بنوا قواعِدَهم في ذلك وأسَّسوها، فعمروا ظواهِرَهم وبواطنهم بحُسنِ الأدب مع أساتيذهم ومشايخهم، وحافظوا على ذلك بقدر جهدهم واستطاعتهم، فأوصلهم حسن الأدب مع مشايخهم إلى حسنِ الأدب مع الله تعالى ومع رسوله في جميع حركاتهم وسكناتهم. فظهرتْ بسببِ ذلك جواهرُ حقائقهم فاستحقُّوا التقدُّمَ على غيرهم والترؤُسَ على أبناء جنسهم.
فأما حسنُ أدبهم مع أساتيذتهم فمن أمثلته التي ينتحي المريد الموفق منحاها وينتهج نهجَها القويم مقتبساً من نورِ سناها ما ذكره في "العوارف" عن أبي منصور المغربي من أنه قيل له رحمه الله تعالى: "كم صحبتَ أبا عثمان؟"، فقال: "خدمتُه لا صحبْته،فالصحبة مع الإخوان، ومع المشايخ الخدمة" اهـ. وهذا ينظر إلى ما روي في بعض الأخبار عن سيدنا العباس(2) عمّنبينا أنه قيل له: "أنت أكبرُ سناً أم النبيُّ "، فقال هو أكبرُ منّي وأنا وُلِدْتُ قَبْلَه(3)"اهـ.
وأما حسنُ أدبهم مع الحضرة القدسية العلية فمنْه ما ذكروه من آدابهم الفعلية التي هي عنوانُ آداب بواطنهم المطهّرة السنية. ذكر الأستاذ أبو القاسم القشيري عن الأستاذ أبي علي أنه كان لا يستندُ إلى شيء أدباً مع الحضرة الإلهية. قال: "وكان يوماً في مجمع، فأردت أن أضعَ له وسادةً خلف ظهرِه لأني رأيته غير مستند، فتنحَّى عن الوسادة قليلاً فتوهَّمت أنه توقَّى الوسادَة لأنها لم يكن عليها خرقةٌ أو سجادة، فقال: "لا أريدُ الإستناد"، فتأملتُ بعد ذلك فعلِمْت أنه لا يستند لشيء أبداً"اهـ.
وقال السري السقطي(4): "صلَّيتُ وردَ ليلةٍ من الليالي ومددْتُ رجلي في المحرابٍ،فنوديت: "يا سري هكذا تجالِسُ الملوكَ!"،فضممتُ رجلي ثم قلتُ:"وعزَّتِك لا مددت رجلي أبداً"". قال الجنيد : "فبقي ستينَ سنةً ما مدَّ رجلَه ليلاً ولا نهاراً" اهـ.
وذكر عن السري أيضاً أنه سُئل عن مسألة من الصبر، فجعل يتكلَّم فيها فدبَّ على رجله عقربٌ فجعل يضربه بإبرَتِه، فقيل له:"ألا ترفَعْه عن نفسك؟"، فقال: "أستحي من الله تعالى أن أتكلم في حالٍ، ثم أخالف ما أعلم فيه" اهـ.
وحكي عن بعض الشيوخ أنه قال: "دخلْتُ مكة، فكنتُ ربما أقعدُ بحذاءِ الكعبة، وربما كنت أستلقي وأمدُّ رجلي، فجاءتني عائشة المكّية فقالت لي: "يا أبا فلان، يقال إنك من أهلِ العلم، لا تجالسه إلا بالأدب وإلا مُحي اسمك من ديوانِ القرب".قال: "وكانتْ من العارفاتِ رضي الله عنها" اهـ. انظر "العوارف".
ومن هذا ما ذكره في "جواهر المعاني" من وصْفِ آداب سيدنا حيث قال بعد سرْدِه لجملةٍ من آدابه: "وما رُؤي قطُّ مادًّا رجلَه إلى القبلةِ، وما بَصَقَ قطُّ وهو جالسٌ بالمسجدِ ولا رَفَع به صوته، وما سَمِعَ أحداً يرفع به صوتَه إلا نهاه، وما رأى أحداً أخلَّ بشيء من آداب الشريعة إلا نبَّهه ويقول له إذا كان له معرفة بها على سبيل الإنكار والتوبيخ: "أهكذا وردَ في السنة؟"" اهـ.
وانظر ما يشيرُ إلى بعض آدابه مع حضرة الله تعالى وحضرة رسولِ الله ، وكذا مع أولياء الله تعالى في "جواهر المعاني" وغيره تعثرْ على معرفة حقيقة الأدب، وتَرَ من ذلك ما تقضي منه العجب.
ويكفي من آدابه مع الحضرة العلية أخذه بكمال الإحتياط في الطهارة ثوبية ومكانية وبدنية، وأمره بذلك في جميع العبادات والتوجهات، فعليةً كانت أو قولية، وذلك من الشائع الذائع عنه وعن أصحابه . وكذلك أخذُه بالإحتياطِ في جميع المعاملات الدينية والدنيوية مما لا يسعنا الآن تفصيلُ بعضِه فضلاً عن كله.
ويكفي في كمال أدبه مع حضرة الرسول مبالغتُه في تعظيم أهلِ البيتِ الطاهر ولهجه دائماً بما خَصَّهم الله به من سَنيِّ المحامد وفاخر المآثر، وحضّه على ذلك في سائر أوقاتِه وأحواله وحثّه الناس على إمحاض الودِّ لهم ودلالته على ذلك بألسنة حاله ومقاله. فكان يكرم الداخلَ منهم عليه بأسمى المجالس وأخصِّها، و لا يتركُ أحداً منهم يجلس بأدناها وأخسِّها، وما ترك أحداً منهم يجلس بإزاء رجلَيْه أو في محلِّ امتهانٍ على أي حالٍ كان. ولم يكنْ يساوي بخصوصيتهم الذاتية خصوصيةً ولا بمزيتهم الأصلية مزية، وسيأتي بعضُ ما يتعلَّق بهذا أثناء الشرح إن شاءَ الله تعالى.
ويكفي في كمال أدبه مع أولياء الله تعالى حضُّه على تعظيمهم وتوقيرهم أحياءً كانوا أو أمواتاً، وعدم مسامحته في الإستهزاء بهم والإستهانة بقَدْرِهم. وكان ينهى من يسكنُ بجوار واحدٍ منهم أن يمدَّ رجليه إلى جهته ولو أداه ذلك إلى مخالفةِ ما جرَتْ به العادة في نوم الناس في محالِّهم، كأن يجعلَ رأسَه إلى باب البيتِ مثلاً،لا يغفل عن ذلك أبداً.
وقد أخبرني بعض الأفاضل من أعيانِ أصحابه أنه اتفقتْ له السكنى بدار مجاورة لضريحِ مولانا إدريس على عهد الشيخ . وكان البيتُ المعدُّ للسكنى من تلكَ الدارِ مقابلاً للضريحِ المعظَّم فلما أعلم الشيخ ، بذلك أعظمه غاية الإعظامِ، لأن من لازِمِ من نام بذلك البيت أن يمدَّ رجليه إلى جهةِ الضريحِ الأبرك، ثم أكدَ على الصاحب المذكور أن لا يمدَّ رجليه إلى ناحية الضريح في نوم ولا يقظة. وبعد مدَّةٍ يسيرة أدخلت الدار المذكورة في المسجد الإدريسي، فكان بعض المحبين يرى أن ذلك من أثر تحركِ همَّةِ الشيخ لذلك. ولا بعد فيما رآه هذا المحبُّ عند من فتح الله بصيرتَه ورزَقَه الإيمان الكامل بكرامات أولياء الله تعالى، وألهم التصديقَ بأن الأشياء تنفعل لتحرِّك هَممَهم العوالي بإذن مولى الموالي سبحانه وتعالى.
هذا، ولو تتبعنا ما نُقِل عن المشايخ في هذا الباب واستوعبنا ذكر ما اتصفَ به سيدنا من سِنيِّ الآداب لخرجنا إلى حدِّ الإطناب، مع أن القصد، إنما هو الإلمامُ بشيءٍ مما عسى أن يكون للناظر في هذا الكتاب تنبيهاً وتذكرةً وإعانة له على ما هو بصدده من فهم مسائل هذا النظم وتبصرة، والله تعالى المستعان، وعليه سبحانه التكلان. ×
(2) هو عباس بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة، عم النبي ، كان في الجاهلية رئيساً في قريش، وإليه كانت عمارة المسجد الحرام. شهد مع النبي r بيعة العقبة لما بايعه الأنصار، وكان مشركاً. وكان رسول الله يعظمه ويكرمه بعد إسلامه. مات سنة 32 هـ.
انظر
"أسد
الغابة": 3/60.
(3)
في
"أسد
الغابة":
«كان
أسنّ من رسول الله
بسنتين،
وقيل: بثلاث سنين».
(4)
هو
سري بن المغلس السقطي،
أبو الحسن، من كبار المتصوفة.
بغدادي المولد والوفاة، وهو
أول من تكلم في بغداد بلسان
التوحيد وأحوال الصوفية، وكان
إمام البغداديين وشيخهم في
وقته، وهو خال
الجنيد وأستاذه. مات
سنة 253 هـ
انظر "طبقات الصوفية": 48، و "الوفيات": 1/200، و "صفة الصفوة": 2/209، و "حلية الأولياء": 10/116.
إلحاق
مما ينبغي أن يندرج في هذا المطلب وينساق، ما حكاه في
"العوارف" عن
الشبلي
من قوله: "الإنبساطُ بالقولِ مع إلحاقِ ترْكِ الأدب"، يريدُ رحمه الله تعالى في بساط الدعاء والطلب. قال فيها – أعني
"العوارف"–:"وهذا يختصُّ ببعضِ الأحوالِ والأشخاص دون البعض، وليسَ على إطلاقه، لأن الله تعالى أمر بالدعاء" اهـ.
وقال الشيخ
زروق
بعد ذكره ما ورد في حق
الخليل عليه الصلاة والسلام حين زُجَّ به في المنجنيقِ فتلقَّاه
جبريل
وقال له: "ألك حاجة؟"، فقال: "أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى"، فقال له: "إذن فاسأله"، قال: "حسبي من سؤالي عِلْمُه بحالي"ما نصه:
"وهو طريق العارفين عند تعذر الأسباب، أعني الرجوع إلى الله تعالى بالإستسلام وترْك الطلب، بخلافِ حال قبوله لمحل الأسباب، فإن العملَ بها حينئذٍ مطلوبٌ".
قال: "واعتبر ذلك بأمرِ أم
موسى
بإلقائه في البحر وإجابة الملائكةِ للوط
بقولهم
«
قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ
»(هُود: الآية
76)عند قوله لقومه
«لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً»(هُود: الآية
80)الآية، فهو صلوات الله عليه أرادَ مقابلتَهم بالأسبابِ، فأجيبَ بنفوذ الأمر وأنه لا محلَّ لها، ولذلك أشارَ
النبي
بقوله
«يَرْحَمُ الله أخِي لُوطاً لَقَدْ كانَ يأْوِي إلى رُكْنٍ شَديد»(1) على معنى أن ترحمه عليه إنما كان لظنِّه أن الأسبابَ بقي لها محلٌّ، لا كما فهمه من لا حقيقة عنده".
ثم قال: "والتوجهات ثلاثة:
- أولها: التوجُّهُ بالإستسلام، وذلك عند تعذر الأسباب كما تقدم.
- الثاني: التوجُّه بالسؤالِ والطلب، وذلك عند انشراحِ الوقت وجريانه بالمعتاد، وفي موقف تذكير النفس بالإفتقار والإضطرار عند غفلتها عن التوحيد، أو يكون البساطُ بساطَ تعليم أو تذكيرٍ ونحوه.
- الثالث: التوجُّه بالتعريض، وذلك حين يغلبُ حسن الظن والإكتفاء بالعلم وتحقيق التوحيد والإشتغال بالذكر، كقول سيدنا
إبراهيم
«وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ
(82)»(الشُّعَرَاء:ألاية
82)،وكقول سيدنا
موسى
«رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ»(القَصَص: الآية24)،وكقولِ
نبينا
«لا غِنَى لي عَن عافِيَتِكَ، عَافِيَتُكَ أَوْسَعُ بي»"
اهـ كلام الشيخ
زورق
.
ولا يخفى أن كلَّ توجُّهٍ لحال أو وقت هو الأدب في تلك الحال أو ذلك الوقت. وبهذا الذي نقلناه عن الشيخ
زروق
يظهر ما أشار إليه رحمه الله تعالى ورضي عنه، ويعرف أنه ليس على إطلاقه كما تقدَّم عن صاحب
"العوارف". نعم يحتاج التوجه بالسؤالِ والطلب إلى آدابٍ تخصُّه:
- منها الإخلاص، قال تعالى
«وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ»(البَيّنَة: الآية5)الآية. قال في
"تهذيب الأذكار": "وإخلاص الدعاء إلى الله تعالى أن يخلصَ الدعاءَ عما يشوبُه من الحظوظ، وأن يفرِدَ الله تباركَ وتعالى في القصْدِ بأنه المعطي لا غيره''.
- ومنها أن يأتي في دعائه بما يشعرُ بعظَمَةِ الربوبية وذلة العبودية. قال الشيخ
زروق
: "كلُّ دعاءٍ لا يشعرُ صاحبُه فيه بعَظَمَةِ الربوبية وذلّ العبودية فهو تلاعبٌ"، وبه أُجيبَ عن عدم انتفاع كثير من الناس بالأدعية والأذكار الصحيحةِ الوعد بالإجابة، المجرَّبة النفع عند أهل الصدق والإخلاص.
- ومنها الإكتفاء بعلم الله تعالى مع حسن الظنِّ به والتفويض إليه في الإجابة والعطاء.وقد نقل الشيخ
زروق
عن بعضهم أنه قال: "من لم يكنْ في دعائه تاركاً لاختياره راضياً باختيار الحقِّ تعالى فهو مستدرجٌ، وهو ممّن قيل له «اقْضُوا حاجَتَه فإنِّي أَكرَهُ أَنْ أسمَعَ صَوْتَه». فإن كان مع اختيار الحقِّ سبحانه وتعالى، لا مع اختياره لنفسِه، كان محبوباً وإن لم يعطَ، والأعمال بخواتمها(2)"اهـ.
وذكر في
"جواهر المعاني" عن
شيخنا
أنه كان إذا دعا لنفسه أو لأحد بشيءمما كان مجهولَ العاقبة، أو فيه حظٌّ، كان دعاؤه طلبَ الخيرة من الله. وكان يقولُ المرة بعد المرة: «لا أدعو إلا بلساني، وقلبي مستسلم لله تعالى، وأقولُ لا أريدُ شيئاً ولا أختار شيئاً، تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد». وتارة إذا طلبه أحدٌ في الدعاء يمتنع منه أدباً مع الحقِّ سبحانه، واكتفاءً بعلمه واختياره لعبيده. وهذا كله فيما هو مَشُوبٌ بالحظوظ.وأماالدعاءُ على وجْهِ العبودية فقد كان لا يزال لَهِجاً به رطباً قلبه ولسانه، لأنه مأمورٌ به شرعاً. وكان أكثرُ دعائه لمن سأله في الدعاء:
«الله يقبل عليك بمحض فضله ورضاه» اهـ. وفي هذا الدعاء من التحقيق بوصف العبودية والإستشعار لعظمة الربوبية، مع ما فيه من كمال النصح وحسن التربية، ما لا يخفى، لاشتماله على جميع المطالب الدنيوية والأخروية، مع الإعتماد في جميعها على ما يبرز من الحضرة الفضلية. وراجعْ آداب
شيخنا في
"جواهر المعاني" وتأملْ ما اشتملت عليه رسائلُه ومخاطبته من أدعيته لمن يخاطبه، ترَ مما خصَّه الله تعالى به من محاسن الأدب ما يشهدُ العقل والنقل بأنه لا يتأَتَّى مثلُه إلا للخاصة العليا من أهل الرتب
وأرضاه، ومتَّعنا والأحبة في الدارين برضاه، آمين.
واعلم أنه قد تحصَّل مما ذكره في
"جواهر المعاني" من عمل
سيدنا
في الدعاء على اختلاف الأحوال فيه أن الدعاء ينقسم إلى ثلاثة أقسام، ولكلِّ قسم منها أدب يخصُّه:
- (القسم الأول) الدعاءُ بما كان مجهولَ العاقبة، والمراد به ما لم تتبين مصلحتُه للعبد. وقد أفادَ عملُ
سيدنا
أن الأدب فيه هو أن يكون بطلبِ الخِيرة من الله تعالى، وهو واضحٌ، والتحقق فيه بوصف العبودية بيِّنٌ.
- (القسم الثاني) الدعاءُ بما كان مشوباً بحظِّ النفس، وهو طلب الحوائج من الله تعالى، أعني الحوائج التي تبين للعبد أن له فيها مصلحة. وقد أفاد عملُ
سيدنا
أن يطلب ذلك الشيء على التعيين مع التفويض والإستسلام وترك مراد العبد إلى مراد سيده، واختياره إلى اختياره سبحانه، وحكم مشيئته مع رؤية التأثير من الله تعالى من نفسِ الداعي، وهذا هو دعاء أهل اليقين.
قال الشيخ المحدث العارف بالله سيدي
محمد بن علي الترمذي
في
"نوادر الأصول": "وأما أهلُ اليقين فإنهم يدعون ويلحُّون، وهم في ذلك ساكنون مطمئنُّون منتظرون مشيئة الله، فإذا أجابَ قبلوا، وإن تأخَّر صَبَروا، وإن مَنَع رضوا وأحسنوا الظن، كما قيل: "مَنَع الله إياك عطاءً منه لك"، وذلك أنه لم يمنعْكَ من بخلٍ ولا عدم" اهـ نقله في
"شرح عدة الحصن الحصين".
وبهذا الأدب يصيرُ الداعي متعبّداً لله تعالى في عين طلبه لحاجته، فلا يؤثر في عبادته إذ ذاك حظُّ نفسه.
ومما يزيدُ هذا القسم بياناً وإيضاحاً ما ذكره الشيخ أبو
عبد الله بن عباد الرندي في
"رسائل"ـه، ونصُّه: "إن الوجه في وقوع الدعاء، يعني طلب الحوائج من الله تعالى على وجه العبودية أن تكون في حال دعائك طالباً من الله شيئاً رأيت أن لك فيه مصلحة من غير أن تدعي استغناءً عن ذلك ولا سخاوة نفس به، ومن غير أن ترى دعاءك سبباً موجباً لحصولِ ذلك الشيء المطلوب، دون الحكم الأزلي، وهذا لا ينافي كونك راضياً مفوِّضاً متوكِّلاً، كما لا ينافي ذلك التسبُّب والتكسب إذا كان بحيث لا يتغيَّر قلبك ولا يضطرب عند عدم إفضاءِ سببك، إلى مطلبك".
ثم قال: "ولا يضرُّك ما يفاجئك أولاً بمقتضى الطبع من بغضك لعدم حصول مطلبك، إذ ذاك لا يثبتُ ولا يلبث أن ينهزم ويزول بما يكرُّ عليه من وجود إيمانك ويقينك ومعرفتك، ويكون بمنزلة الطائف الذي ينهزم بالتذكُّر". اهـ نقله في الشرح المذكور بمعناه عن شيخ شيوخه العارف بالله.
قلت: هو حسن في بابه، مفيد جداً في إيقاع السؤال والطلب على الوجه الأكمل المرضي شريعةً وطريقة وحقيقة، حيث اشتمل على امتثال الأمر بالدعاء، وعلى ترْكِ دعوى النفس الإستغناءَ عن الشيء المطلوب، وعلى رؤية التأثير للقدرة الإلهية والحكم الأزلي مع الرضا التام، والله تعالى أعلم. وإلى هذا أشار ما ذكره في
"الحلية" عن
محمد الباقر أنه قال: "ندعو الله تعالى بما نحبُّ، فإذا وَقَعَ ما نكره أحببنا ما أحبَّ" اهـ.
- (القسم الثالث) الدعاءُ على وجه العبودية المحْضَة:تعبُّداً لله تعالى وتقرباً إليه سبحانه وتعالى من غير أن يشوبَ ذلك حظٌّ. وهو التوجُّه إلى الله تعالى بالدعوات المشتمِلة على أوصاف العبودية من إظهار فاقةٍ وافتقار أو عجز واضطرار على وجه التضرُّع والخضوع إلى الله تعالى، وعلى طلب التوبة والمغفرة والقبول والرحمة منه سبحانه وتعالى.
وعلى هذا القسم كان عملُ من أدركناه من أصحابِ
الشيخ
في جميع الأحزاب والأدعية، وعليه كانوا يحضُّون، وفيه كانوا يرغبون. ورأينا الفضلاء المعتبرين منهم يكرهون أن يذكر المريد شيئاً من الأدعية والأحزاب المتداولة في الطريق، كـ"السيفي" و
"حزب البحر" وغيرهما، بنية شيء من الخواص. ويصرِّحون بأن طريقنا أن نذكر ذلك تعبداً لله تعالى وتقرباً إليه وطلباً لمرضاته لا غير.
×
(2) الحديث «وإنما الأعمال بالخواتيم» رواه البخاري في (القدر: 5)، وفي (الرقاق: 33)، و الترمذي في (القدر: 4)، و أحمد: 5/335.