سند و شروط الورد | مدخل لسند الورد و بعض فضائله
سند الوِرْدِ وبعض فضائله
و السند في الطريق و كذا في الحديث: هو مأخوذٌ في الأصل من السند أي المرتفع من سَفْح الجبل، و من قولهم: فلان سندٌ، أي معتَمَدٌ. و هو في اصطلاحِ أهل الطريق رَفْعُ الإذن في ذكر أو لبس خرقةٍ أو نحو ذلك إلى من أظهره الله على يدِه أو إلى النبيّ.
و أما في اصطلاح أهل الحديث: فهو ما وَصَل به المتْنُ المرويُّ المرفوع إلى قائله. و الوِردُ: الوظيفةُ من قراءةٍ و نحو ذلك، يجمَعُ على أورادٍ كحِمْل و أحمال اهـ، قاله في « المصباح ». و قال ابن عباد: « الوردُ عبارةٌ عما يقَعُ بكَسْبِ العبد من عبادةٍ ظاهرة أو باطنة » اهـ.
و المراد هنا الوردُ المتقدِّم الذكر من الإستغفار و الصلاة على النبيّ و الكلمة المشرفة الذي رتبه سيِّد الوجود لسيدنا، و أمَرَه بتلقينه لكافة الخلْقِ يقظةً و مشافهةً حسبما تقدَّم. و سيأتي لنا ذكر أركانه القائم منها مفصّلاً مبيناً عند تعرُّض الناظم لذلك، إن شاء الله.
و الفضائلُ: جمعُ فضيلة، و هي الخصلةُ الشريفة في المتَّصف بها، و أراد النَّاظم بهذه الترجمة الشروعَ فيما قصَدَه بهذا النظم و هو ذِكْر هذا الورد الشريف و ما يتعلَّق به، و بدأ من ذلك ببيان سندِه ثم بيان بعض فضائله.
أما السند فبدَأَ به و قدَّمه على غيره من فصول هذا المبحث:
- لأنه أهمُّها بلا إشكال، و ذلك لما نصَّ عليه أئمَّةُ الطريق من أن « الذكْر، و إن كان حسناً على اختلاف أنواعه لا يتَّخذ منه وردٌ أو وظيفة إلا بإذْن شيخ، و من اتَّخذ وِرْداً بغير إذنٍ فهو غارٌّ مغرورٌ » اهـ.
- و لما ذكره غيرُ واحد من الأئمَّة من أن الإعتناء بالسند من خصائص هذه الأمة،
- و لأنه نسب الإنسان في الدين، و من أقبحِ الجهل أن يجهلَ الإنسان نسَبَه،
- و لأنه أصل هذا الشأن و سائر ما عداه متفرِّع عنه، و من لا سند له في الطريق فهو دَعِيٌّ فيها على التحقيق.
قال ابن المبارك: « لولا السندُ لقالَ من شاء ما شاءٌ »، و لا زالَ الأفاضلُ قديماً و حديثاً يتغالون أشدَّ التغالي في طلب علوه، أي قربه من النبي.
قال ابن معين: « علوُّ السند قربة إلى الله و رسوله ». و لا يقالُ: إن هذا في رواية الحديث خاصَّةً، لأنا نقولُ هو في باب التربية و أخذ الأسرار المخصوصة بالخاصَّة كذلك أيضاً و آكد. و لهذا كان يتبجَّح من حَصَل له علوُّ السند في الطريق برؤيةِ النبيّ يقظةً، كما تقدَّم لنا ذكره.
و مما اتفق للشيخ عبد الوهاب الشعراني و ذكره من جملة المِنَن التي امتنَّ الله بها عليه و هو قوله: « أدركتُ بحمد الله جماعةً ممن رأى النبيّ في اليقظة و اجتمع به » و عدَّ منهم شيخه الخوَّاص و السيوطي و غيرهما. و كما تقدَّم لنا عن الشيخ إبراهيم المتبولي من أنه كان يقول: « نحن في الدنيا خمسة لا شيخ لنا إلا رسولُ الله »، و عدَّهم.
و من التبجُّح بقرب السند و علوِّه على الوجه المذكور، قولُ الشعراني أيضاً: « لا أعلمُ أحداً في مصرَ الآن أقربَ سنداً إلى رسول الله مني، فإن بيني و بينه رجلَيْن سيدي علي الخوّاص و سيدي إبراهيم المتبولي(1) فقط » اهـ، يريدُ أنه أخذ عن الخواص و هو عن المتبولي. و لعلَّ هذا كان قبل أن يحصلَ الإجتماع بالنبي يقظةً لشيخه الخواص. و قد صرَّح في كلامٍ آخرَ له بأن شيخه الخواص لم يمتْ حتى صار يجتمعُ به يقظةً إلى غير هذا مما هو مذكور من كلامهم في معرض التبجُّح بعلوِّ السند على الوجه المذكور.
و لا أعلى من سند طريقنا على وجه الأرض في هذه الأزمنة، و الحمد لله تعالى. فإن أطولَ أهلها اليومَ سنداً من بينه و بين النبي أربعُ وسائط أو خمس. و منهم أفذاذٌ ليس بينهم وبينه الآن إلا واسطتان، لأن بينهم و بين سيدنا الشيخ واسطة واحدة، و قد حصَلَ لنا ذلك من بعض الطرق و الحمد لله حمداً كثيراً لا نحصي ثناءً عليه كما هو أثنى على نفسِه سبحانه.
فظَهَر من هذا أن السند آكدُ ما يُعتنى به في هذا الشأن، فلذلك قدمه النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى عما عداه.
و أما تقديمُه لذكر فضائل الوِرْد على ذكر ما عداها فلأن معرفة فضائل الأعمال ما يحثُّ على الإجتهاد فيها بغاية الدؤوب و دوام الإقبال.
قال بعض العارفين: « من لم يعرف ثوابَ الأعمالِ ثقلتْ عليه في جميع الأحوال »، إذ لا يحمل النفوسَ على الأعمالِ و ملازمة قرع الباب إلا معرفةُ ما لها من الثواب. و الإشارة إلى هذا المعنى موجودةٌ في عدة أحاديث. قال : « لَوْ لَمْ يَعْلَمِ النَّاسُ مَا في النِّداءِ و الصَّفِّ الأوَّلِ ثُمَّ لم يَجِدوا إلاّ أنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا عَلَيْه، وَ لَوْ يَعلَمُونَ ما في التَّهجيرِ لاسْتَبَقُوا إلَيْهِ، وَ لَوْ يَعلَمُونَ مَا فِي العَتْمَةِ و الصُّبْحِ لأتُوهُما وَ لَوْ حَبْواً »(2) إلى غير ذلك.
قال: « ثم لا يقدحُ في إخلاص العبدِ أن يريدَ بعمله حظوظَ نفسِه من النعيم الموعود به في الجنة، و لا يغير صحَّة نيته، لأن الله تعالى مدحَ ذلك و رغَّب فيه في كتابه الحكيم، و سنّة نبيِّه الكريم » اهـ من بعض التقاييد بخط بعض العلماء و نسبه لتحفة العباد، و ما ذكره ظاهر.
فإن قلت: العبادة من حيث هي لها مراتبُ ثلاث:
أعلاها أن تكونَ لتعظيم الله و محبّته، و أوسطُها امتثالُ الأمر، و أدناها أن تكون بقصد الأجر و الثواب، و إنَّما كانت هذه أدناها لما فيها من حظِّ النفس، و ذلك يلامُ صاحبه عند المحققين لأنه عاملٌ على مقتضى حظِّ نفسه، و لم يقمْ بحق أوصافِ ربِّه، و ما وجهت به من تقديم ذكر الفضائل مآله إلى هذه المرتبة الملوم صاحبُها، و ما آل أمرُه إلى مثل هذا لا يحسن أن يتقدَّم غيره.
قلنا: الأمر على ما ذكرتُه من التقسيم إلا أن العملَ للثواب لا تكون مرتبتُه أدنى على العموم في حق كل فردٍ من أفراد العالمين، و إنَّما تكون أدنى في حقِّ العامة فقط، و هم الذين لا يصحُّ منهم إخلاص إلا مع التجرُّد التام عن ملاحظة الثواب، و باعتبارهم جاء التقسيم المذكور في المراتب.
و أمَّا الخاصَّةُ الَّذين لا يقدح في إخلاصهم ملاحظةُ الثواب بالعمل، فإنَّهم لا يدخلون في المرتبة الثالثة، بل هم من أهل المرتبة الأولى بلا شكّ، لأنهم يعملون على التعظيم و المحبّة و شهود المِنَّة مصدِّقين في حال تعظيمهم و محبّتهم بما وُعِدوا به من الأجر العظيم. و لا محالة أن تصديقَهم بذلك لا يقدحُ في تعظيمهم و محبّتهم، بل هو مما يتقوَّى به ذلك كما يتقوى به شهود المنة أيضاً. و لا يخفى أن هذا هو حال الكمال، لأنه حالُ أهل الصحْو التام من أقوياء الرجال.
و قد قال بعض أهل التحقيق و التحرير، و كلامه هو الحكمُ العدْلُ فيما أشرنا إليه في هذا التقرير، ما نصّه: « اعلمْ أن العملَ للثواب محمودٌ جدّاً حيث قصد به مجاراة الحقِّ في تنزله، يعني لعبده من حضرة الإطلاق إلى حضرة التقييد، مع أن أفعالَه تبارك و تعالى لا تُعلَّل، و عطاياه سبحانه ليست لغرضٍ. فالأدبُ التنزُّل لما رغِبَ فيه، فلا تكون العبادة حينئذٍ للثواب، بل صارتْ ملاحظة الثواب عبادةً ثانية، مع أن وصْفَك الفقرَ و الإحتياج إلى ما كان من سيدك، و المذمومُ التفاتُ لغرض نفسي » اهـ.
فبان لك أن ما سَلَكه النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى في تقديمه لذكر فضْلِ هذه الطريقة الشريفة من المقاصد العالية المنيفة، و اندفَع ما يتوهَّم ببادئ الرأي من أن العمل على ما يذكره من الفضل داخلٌ في حيِّز المرتبة الثالثة الناقصة. فكلامُه رَحِمَهُ اللهُ في ذلك تبعاً للشيخ في ذكره ذلك جارٍ على حال أهل الكمال التي هي مطمَحُ نظرِ كلِّ من دَخَل في هذا العهد المحمدي الشريف. فإن كل من تقلَّد هذا العهدَ، إن لم يتَّصف بتلك الحالة الموصوفة فهو بصدد الإتِّصاف بها من فضل الله تعالى. و الخطاب في هذا الباب واردٌ من سيدنا و ممن تابعه على ذكر ذلك كالنَّاظم رَحِمَهُ اللهُ بحسب ذلك. فافهم و الله تعالى أعلم.
و هنا وجه آخر لتقديم النَّاظم مبحثَ الفضائل على غيرها، و هو ما تقرَّر عند أئمة هذا الشأن، و ذكره سيدنا من أن من لم يعرف الفضلَ الخاصَّ لا يحصل له، و إنَّما يحصل له العامُّ فقط، فحسن تقديم ذكرِ الفضل من هذه الحيثية أيضاً.
(دقيقة) ذكر في « نصرة الشرفاء » قاعدةً لأهل السرِّ، و هي أن من دَفَع بخصوصية أو فضيلة و مجّها قلبه(3) و لم يقبلْها، فذلك دليلٌ على أنه ليس من أهلها، و من سمع ذلك و فرِحَ به قلبُه و انشرح للتصديق به صدرُه فذلك دليلٌ على أنه من أهله، اهـ بمعناه. و يستأنس لهذه القاعدة بقوله تعالى: [ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ ] (الأنعَام: الآية 125).
و في هذا القدر الغنية إن شاء الله و الكفاية.
(1) هو إبراهيم بن علي بن عمر، برهان الدين الأنصاري المتبولي، صالح مصري، للعامة فيه اعتقاد وغلو، وكانت شفاعته عند السلطان والأمراء لا ترد، وله بر ومعروف، وأنشأ أماكن منها جامع كبير بطنطا وبرج بدمياط. قال ابن إياس: كان نادرة عصره وصوفي وقته، توفي سنة
(877هـ) عن نحو ثمانين عاماً.
انظر بدائع الزهور: 2/145، والضوء اللامع: 1/85.
(2) رواه البخاري في (الأذان: 9، 32، 73)، وفي الشهادات: 30)، ومسلم في (الصلاة: 129)، والنسائي في (المواقيت: 22)، وفي (الأذان: 31)، ومالك في (الجماعة: 6)، وفي (النداء: 3).
(3) مَجَّها: لفظها، ولم يقبلها.
انظر بدائع الزهور: 2/145، والضوء اللامع: 1/85.
(2) رواه البخاري في (الأذان: 9، 32، 73)، وفي الشهادات: 30)، ومسلم في (الصلاة: 129)، والنسائي في (المواقيت: 22)، وفي (الأذان: 31)، ومالك في (الجماعة: 6)، وفي (النداء: 3).
(3) مَجَّها: لفظها، ولم يقبلها.