التعريف بالشيخ | من كرامات سيدنا

من كرامات سيدنا
أن كلَّ صفة كمالية جلالية أو جمالية نالها أحدٌ من العارفين
إلا وقد أمدها هذا الإمام من حضرة سيد الوجود


ثم قال رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

(وكلّ ما ينال كلُّ عارفِ

 

مِن الخِلال ومِن المعارِف

فشَيخُنا أمدَّه من النَّبي

 

وحزْبِه بنيلِه للرُّتَبِ

فخَضَعَتْ رقابُ الأولياءِ

 

لقَدمَيْ شَيخي بِلا امْتراء)

(الخلال) جمع خلة؛ بمعنى خَصْلة، والمراد بها هنا الخصال الحميدة والنعوت الكمالية المجيدة، والمراد (بحزبه) : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، و(الرتب) الدَّرجات، أو المراد ما اختصَّ به في مقام القطبانية من درجة الاختصاص التي لا مَطْمَعَ فيها لأحد من كلِّ الخواص، وهذا أنسبُ بالمقام كما يدلُّ عليه سياق الكلام، و(الخضوع) معروف، والمراد هنا الانحناء والتطأطؤ، و(رقاب) جمع رقبة، والمراد الرؤوس، و(قدمي) تثنية قدم الرجل، و(الامتراء) تقدَّم، وباقي الألفاظ واضح.

يقول: ومن كرامات سيدنا وأرضاه وخصائصه التي اختصَّه بها بسابق العناية مولاه أن كلَّ صفة كمالية جلالية أو جمالية نالها أحدٌ من العارفين المقرَّبين الكرام إلا وقد أمدها بسابق التخصيص الأزلي هذا الإمام من حضرة سيد الوجود وحضرات إخوانه النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ومن حضرته وأرضاه أفيضت على جميع العارفين المقربين من أولياء الله، فبسبب ذلك خضعت له من جميع الأولياء الأعناق، وأذعنوا لقدره في عوالم الغيب بالإطباق، ومن هنا كانت نسبة جميع الأقطاب إلى مقامه الخاصّ كنسبة عامة الأولياء إلى القطب الأكبر صاحب الاختصاص.

وأشار النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى بما ضمنه هذه الأبيات إلى ما رويناه عن غير واحد ممن حضره من أصحاب سيدنا الثقات الأثبات، وهو أنه كان يتحدَّث على عادته مع خاصَّة أصحابه، فجرى ذكر المقالة الشهيرة عن شيخ الشيوخ، وإمام أهل التمكين والرسوخ، مولانا عبد القادر الجيلاني : قدمي هذه على رقبة كلِّ ولي الله، فنهَضَ وكان متكئاً، فاستوى جالساً ومدَّ رجلَيْه الشريفتين وقبضَ عليهما بيدَيْه وقال الشيخ عبد القادر:قال ذلك في أولياء زمانه، وأنا أقولُ قدماي هاتان على رقبة كلّ ولي لله تعالى من لدن آدم عليه السلام إلى النفخ في الصور اهـ. وجعل النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى سبب استحقاقه على الأولياء لهذه المقالة السنية نيله لما اختصَّ به عنهم من السموِّ في المرتبتين الخاصَّتين به الختمية والكتمية، وهو نظر سديدٌ مؤيد بالإلهام، صادرٌ عن نفوذ بصيرةٍ وذوق تام. وبيانه أنه حسبما أشارَ إليه الناظم قال في بساط التعريف بمقامه الخاصّ به: إن القطب المكتوم هو الواسطةُ بين الأنبياء والأولياء، فكلُّ ولي الله تعالى من لدن آدم عليه السلام إلى النفخ في الصور لا يستقي فيضاً من حضرة نبي إلا بواسطته من حيث لا يشعرون، ومدده الخاصّ به يتلقَّاه منه ولا اطِّلاع أحدٍ على فيضِه الخاص به اهـ.

ومرة قال : إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود يتلقَّاها ذواتُ الأنبياء، وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي، ومنها يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور، وخصصت بعلوم بيني وبينه منه إليّ بلا واسطة لا يعلمها إلا الله عزَّ وجل اهـ. وقال: لا يشربُ ولي ولا يُسْقى إلا في بحرِنا من نشأة العالم إلى النفخ في الصور، وإلى هذا الإشارةُ بقوله: «وكل ما ينال» إلى آخر البيتين، وهذا أقوى في السببية مما جعله الشيخ زروق سبب استحقاق الشيخ مولانا عبد القادر الجيلاني لمقالته على الأولياء وهو كثرة عبادته وعلمه مع نسبه الشريف لوجود المشارك في هذا وإن لم يوجد المسامي في زمانه بخلاف ما جعله النَّاظم سبباً لاستحقاق سيدنا المقالة على الأولياء فإنه لم يشاركه فيه غيره ممن تقدَّم من الأولياء أو تأخَّر. على أننا وإن نظرنا إلى ما بنى عليه الشيخ زروق وقطعنا النظر عن غيره، فإنّ سيدنا قد اجتمع له ما ذكر من العبادة والعلم والنسب بلا شك، وزاد خصلةً رابعة وهو كونه في آخر الآخر من الأزمان قاله في الجواب المسكت فراجعه فيه إن شئت.

وعضد النَّاظمُ ما ذكره من السبب بما عقده من قول سيدنا في كلامه الثابت عنه في التعريف بالقطب المكتوم أيضاً، وهو قوله : نسبة الأقطاب معه كنسبة العامة مع الأقطاب، لأن مقامَه غيبُ الغيب لا علم لهم به إلى آخر كلامه، انظر «الجامع».

وبهذا تعرف ما عقده النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى في هذه الأبيات من كلام سيدنا الثابت عنه من طريق القطع بتواتر أخبار الثقات، ثم إن قول سيدنا في مقاله الشيخ مولانا عبد القادر الجيلاني إنما قالها باعتبار أهل زمانه هو الذي صرَّح به شيخ الطريقين، وإمام الفريقين أبو الفيض سيدي أحمد زروق في قواعده ، ولم نقفْ فيما وقفَ عليه من كلام غيره على ما يخالفه، وعليه فهي له على أهل زمانه حقيقةً، لأنه أدرك أعلى الدرجات التي لم يدرِكْها غيرُه في مقام القطبانية والإمامة الكبرى والخلافة العظمى، وما أثبتوه لتلميذه الشيخ أبي السعود بن الشبلي   من شفوف الرتبة وسموّ الدرجات لا ينافي المقالة لأنه يكون من النادر الذي لا تشمله المقالة أو تكون المقالة باعتبار ما آل إليه الشيخ عبد القادر عند الموت، فإنهم نصُّوا على أنه أدرك ما اختصَّ به تلميذه المذكور عند موته، أو يكون ما اختصّ به أبو السعود من باب المزية وهو أضعفُ هذه الوجوه، لأن المتَّصف به أبو السعود كان مقاماً له لا حالاً كما يعلم ذلك بالوقوف عليه في كلام من تكلَّم عليه من المحققين، والله أعلم.

وعلى كل حال فالمقالة تقتضي شفوفَ رتبة الشيخ عبد القادر وعلوّ درجته على غيره، لأنها نصٌّ مقبول في ذلك، لما تقرَّر عند المحققين من أن مثل مما يقتضي الأفضلية على جنس أو نوع لا يثبت إلا بدليل يستدلُّ به عليه من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله أو إجماع أمته، وألْحقوا بذلك إخبار الثابت العدالة كالشيخ عبد القادر وكسيدنا ، وذلك لأن الولي الموصوفَ بما ذكر لا يذكر ذلك إلا بتعريف إلَهي، من جملة ما يقَعُ به التعريف الإلَهي للأولياء الإلهام الذي يثلج له الصدرُ وينشرح له القلب، وقد علمت أنه معمولٌ عندهم دون توقف ولا تردّد، وعلى هذا فلا سبيل إلى تكذيب الشيخين أو أحدهما رضي الله عنهما في المقالة المذكورة، ولا بد في هذا الباب لمن ألْهَمَه الله تعالى رشدَه من أحد أمرين: إما تصديق أو تسليم، ومتى خرج عنهما معاً خِيفَ عليه الهلاك والبوارُ بارتكابه في مهواة الإنكار على أولياء الله المقربين الأبرار، فيما هو ممكن في قدرة الفاعل المختار، وقد قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني من كان يخبر عما يشاهد يجب على السامع التصديق به إن كان مريداً، والتسليم له إن كان حبيباً اهـ.  

وهذا الكلام قسطاسٌ مستقيم (1)، لمن أراد السلامة لنفسه ودينه من الوقوع في ذلك المرْتَع الوخيم (2)، أعاذَنا الله منه بمنه وكرمه آمين. وإذا عرف هذا فيجب أن لا يلتفت إلى استثقال من يستثقل مثل هذه المقالة من سيدنا كائناً من كان، لأنه لم يبقَ بعدما ذكرناه وجه لاستثقاله إلا التقيد بالمعتاد والمألوف، وذلك من أعظم الحُجُب المانعة من قبول الحقِّ وأقوى  أسباب الحرمان. 

(تنبيهان: الأول) ربما قال المنكر المولع بالإرجاف المتجنِّب لطريق الإنصاف: إن قول سيدنا : «من لدن آدم على النفخ في الصور» يتناول الأنبياءُ عليهم الصلاة والسلام، وكذا الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وجدَّد عليهم سحائب الإفضال والإنعام، فيقال له هذا الذي قدَّرته باعتسافك وجهلكَ وصورته في خزانة وهْمِك من ضعف عقلك بادي البطلان، حتى عند من معه أدنى ميز من العامة والصبيان، وذلك لأن الولي في الاصطلاح اليوم المتبادر منه إلى الأذهان غير الصحابة رضوان الله عليهم، فصار حقيقة عرفية في غيرهم من صالح الأمم المخصوصين بالمعارف والأسرار مجازاً في الصحابة، ولا يعدل إلى المجاز متى أمكنت الحقيقة، وإن كان الصحابةُ هم الأولياء الكبراء والسادات العظماء، ألا ترى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أولياء الأولياء، لكن لا يقال لهم ذلك في الاصطلاح بدليل مقابلتهم بهم في مثل قولهم: الأنبياء معصومون والأولياء محفوظون، ويشهد لكونه الولي في العرف حقيقة في غير الصحابة أن من قال مثلاً: رأيت كلاماً لبعض الأولياء، إنما يتبادَرُ منه الأولياء غير الصَّحابة، والتبادُر عند التجرد عن القرينة دليلٌ على الحقيقة. قال في «نشر البنود على مداني السعود»:

المعنى الذي يتبادر إلى الذهن من اللفظ عند عدم القرينة هو المعنى الحقيقي لهم وغيرهم مما لا يتبادرُ إليه إلا بالقرينة هو المجازي. وقال في «جمع الجوامع» اللفظ إما حقيقة أو مجاز إلى أن قال: ثم هو محمولٌ على عرف المخاطب أبداً اهـ.

فبان واتَّضح أن قول سيدنا « كل ولي» إلخ عامٌّ خصَّصه العرفُ بغير الصَّحابة وأحرى الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام، وقد عدَّ الأصوليون العرف من المخصَّصات اهـ انظر «الجيش الكبير» ويبين مراد الشيخ بالولي في هذه المقالة جوابه لمن سأله عن الولي المفتوح عليه والصحابي الغير المفتوح عليه أيهما أفضل بقوله: الحق أن الصحابي أفضل لحديث: «وإن الله فضَّلَ أصحابي على سائر العالمين ما عدا النبيين والمرسلين» والحديث: «لَوْ أنْفَقَ أحَدُكُم مِثْلَ أُحُدٍ» (3) الحديث، ولما فازَ به الصَّحابة من مشاهدة طلعته التي لم تحصلْ لغيرِهم، ولأن غيرهم في موازينهم. وكان يقول: أعمالُ غير الصحابة بالنسبة إلى أعمالهم كسَيْر النملة بالنسبة إلى طيران القطاة اهـ. ومعلومٌ أن كلام من كان مثل الشيخ يخصِّص بعضُه بعضاً ويقيده، والله الموفق.

(التنبيه الثاني): قد يقول المعارضُ على هذه المقالة: هي شطح ممن صدرتْ منه لأنها كلمة تدلُّ على الرتبة عند الله على طريق الفخر بذلك، والأولياء الصادقون لا يفتخرون على أحدٍ، فلا يكون الشطحُ إلا عن رعونة نفسٍ، وذلك نقصٌ ظاهر في صاحبه، فيقال له: لا يذهب برسنك الجهلُ كلَّ مذهب فتقع في الحوض فيما قصَّر عنه إدراكُك من الخوض فيما يتعلَّق بمقامات أهل الرتب، وإن أردت الوقوف على عين التحقيق والتماس نور الإيمان والتصديق فارجع ورا، وأعد في كلام المحققين في هذا الباب نظراً، فإن الصيد كله في جوف الفرا (4). وقد أفصح أهل التحقيق والفحول من أئمة الطريق بأن الشطح الصادر من الأكابر بحكم الوراثة إنما يصدرُ منهم عن أمرٍ إلَهي، وحينئذٍ فلا تبقى فيه شائبة للفخر حسبما صرَّح بنفيه في حديث: «أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ ولا فَخْر» (5) قالوا في معناه أي ما قصدتُ الافتخار عليكم بهذا التعريف، وإنَّما أخبرتُكم به لمصلحةٍ تعودُ عليكم، وتضمن قول سيدنا عيسى عليه السلام: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريَم: الآية 30] الآية، نفى الفخر أيضاً لتصديره فيه بوصف العبودية، ومعلومٌ أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون فما جاء النفي للفخر في تعريفهم لأنفُسِهم إلا لتعلم أن من التعريف بالنفس ما ليس بفخر، وهو ما يكون عن أمر إلَهي للرسل عليهم الصلاة والسلام، ولورثتهم بحكم الإرث منهم وهم الكمل من الأولياء رضوان الله عليهم، وما كان عن غير إذن إلَهي فهو زلَّة في حق المحققين وبقية من بقايا رعونات النفس وإن كان صِدْقاً، وفي ذلك قيل: 

الشطْحُ دعوى في النفوسِ بطَبْعِها

 

لبقِيَّةٍ فيها لآثارِ الهَوَى

هذا إذا شَطَحَتْ بقَوْلٍ صادِقٍ

 

من غير أمرٍ عندَ أربابِ النُّهى

وقوله: «من غير أمر» أي إلَهي حسبما تقدَّم وعلامة من يشطح عن غير أمر إلَهي وإن كان صادقاً أن يبتليه الله تعالى بالفقر والذلّة والرجوع على أصله لا محالة، وفي مثله قيل: من بَسَطَه الإدلالُ (6) قَبضَه الإذلالُ، وفي مثل من يشطح بصدق من غير أمر إلَهي قيل الدعوى قبيحةٌ وإن كانتْ صحيحة، فتحصل أن الشطح الصادرَ من كمل المقربين ورثة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام لا يكون إلا عن أمر إلَهي لذلك الكامل بتعريفه نفسه لاتباعه لمصلحة تعود عليهم في ذلك، وما كان كذلك فلا فخْرَ فيه ألبته، بل فيه تبشير الأتباع وتثبيتهم وتقوية لإيمانهم، لأن كمال الانتفاع للتابع من المتبوع يكون بقدر معرفته له والمعرفة قد تحصلُ بتعريف غير ذلك الكامل به، وقد تحصل بتعريفه لنفسه بنفسه، قالوا: ومن أثنى على نفسه أمكنُ وأتمُّ ممن أُثني عليه، فالتعريف بالنفس عن أمر إلَهي صفة المتمكِّنين في مقامات الكمال، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.

وقد كان من حق النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى أن يعقد هنا المقالة بتمامها بأن يأتي بما ينص به على أن المراد بالأولياء من لدن عصر آدم عليه السلام إلى النفخ في الصور حسبما صرح الشيخ بذلك، ولا يكتفي بإطلاق لفظ الولي وقد زدت عقب قوله: «فخضعتْ رقابُ الأولياء» البيت، بيتاً لمن أراد أن يلحقه هنا وهو:

مِنْ سابقٍ عليه في الوجودِ

 

ولاحقٍ مِنْ أخي شُهودِ

والله المستعان، وعليه التكلان،


 


 

***


(1)  القسطاس: الميزان.
(2) 
المرتع: مكان رعي الماشية، والوخيم: الفاسد: وهذه كناية عن سوء الموقع وفساده.
(3)  رواه البخاري في (فضائل أصحاب النبي: 5)، ومسلم في (فضائل الصحابة: 221، 222)، وأبو داود في (السنة: 10)، والترمذي في (المناقب: 58)، وابن ماجه في (المقدمة: 11)، وأحمد: 3/11.
(4)  المثل «كل الصيد في جَوْف الفَرَا» في معجم الأمثال: 3/11. قال ابن السكيت: الفرا الحمار الوحشي، وجمعه فِراء قالوا: وأصل المثل أن ثلاثة نفر خرجوا متصيدين، فاصطاد أحدهم أرنباً، والآخر ظبياً، والثالث حماراً، فاستبشر صاحب الأرنب وصاحب الظبي بما نالا وتطاولا عليه، فقال الثالث: كل الصيد في جوف الفِراء، أي هذا الذي رزقت وظفرت به يشتمل على ما عندكما، وذلك أنه ليس مما يصيده الناس أعظم من الحمار الوحشي.
(5) رواه ابن ماجة في (الزهد: 37)، وأحمد: 1/5.  
(6)  رواه ابن ماجة في (الزهد: 37)، وأحمد: 1/5.