التعريف بالشيخ | أنْفِقْ بِلالُ وَلاَ تَخْشَ مِنْ ذِي العَرْشِ إقلالاً
«أنْفِقْ بِلالُ وَلاَ تَخْشَ مِنْ ذِي العَرْشِ إقلالاً»
ثم قال النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى:
(وَمِنْهُ أنَّ خاتَم الرِّسالهْ |
|
قالَ لهُ ما لبِلال قالهْ |
وقِيلَ للشَّيخ رفيعِ الذكرِ |
|
ما لابنِ دَاود أتى في الذكرِ |
مِنْ قوله «هذا عطاؤنا» إلى |
|
آخِرِها ومِثل ذا لن يُحظلا) |
(خاتم الرسالة) نبيّنا ، و(بلال) هو ابن حمامة الحبشي الصَّحابي الجليل مؤذِّن رسول الله (1)، و(الذكر) الأول: الثَّناء والصيت، و(الذكر) الثاني: القرآن العظيم، ففي الكلام تجنيسٌ تامٌّ (2)، والضميرُ في (من قوله) للحق تبارك وتعالى، ففي الكلام شجاعة الفصاحة على حدِّ ما قيل في قوله تعالى: فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص: الآية 32] و(العطاء) فسَّروه بالتفضل أي التفضُّل المحض الوارد من المتفضِّل على المتفضَّل عليه لا على سبيل الاستحقاق والوجوب، قاله في «مفاتيح الغيب» والضمير في قوله: (إلى آخرها) للآية الكريمة، والإشارة بذا من قوله (ومثل ذا) إلى قول أكابر العارفين كالشاذلي وابن سبعين والجزولي وأضرابهم ، قيل لي كذا، و(يحظلا) من حَظَله إذا منعه.
يقول: ومن هذا الذي أردت الإشارة إليه وقصدت التعريج في هذا المحل عليه من كرامات سيدنا وأرضاه ومناقبه وخصائصه ومزاياه، ما تلقاه عنه الثقات من أصحاب السراة الأمثال من قوله : قال لي سيد الوجود :«أنْفِقْ بِلالُ وَلاَ تَخْشَ مِنْ ذِي العَرْشِ إقلالاً» وما تلقوه عنه أيضاً وتواتر الحديث به، واشتهر كلّ الاشتهار بين الإخوان والأصحاب من قوله : قيل لي: «هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» [ص: الآية 39] ومثل هذا إذا ثبت وروده عن أهل الاختصاص لا قادِحَ فيه ولا مانع منه بإجماع من فحول الأئمة وكمل الخواص. وهاتان الكرامتان العظيمتان بما آل إليه أمرُهما من نوع واحد، وقد ظهر مصداقُهما للغائب والشاهد حتى أقرَّ به المحبُّ والقالي، وتساوى في الاعتراف به المقِرُّ والجاحد، وانظرْ فصلَ كرمه من كتاب «جواهر المعاني» تعرف ما خصَّه الله تعالى به في هذا الباب، وأنه لا مساوي له فيه من أبناء جنسه، ولا مداني، ومن كلامه فيه قوله: فدأْبُه الإنفاقُ في سبيل الله والإطعام لوجه الله يفرِّق ماله في ذلك شَذَرَ مَذَر (3)، في كلِّ وقتٍ من رخاء وشدّة في حالة الحضر والسفر، من كل ما يتناوله من المكتسبات من عين وعَرَض وفواكه وخضر، ما بين مواساة ونفقة وصلة رحم وصدقة، ويقول: المالُ مال الله وإنَّما أنا خازنُ الله ومسخَّر فيه، لقوله تعالى: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ» [الحَديد: الآية7] ولقوله : «يَدُ الله مَلأَى لا تغيضُها نَفَقَةٌ سحَّاء اللّيلِ والنَّهارِ، أرايْتُم ما أُنْفِقَ مُنْذُ خَلْق السَّمٰوات والأرض فإنَّه لم يغضْ ما في يَدِه، وكانَ عرشُه علىٰ الماءِ، وبِيَدِه المِيزانُ يخفضُ ويَرْفَعُ» انتهى. وهذا الحديث أخرجه غيرُ واحد عن أبي هريرة ، وراجع إن شئت هذا الفصل بثمامه.
(لطائف: الأولى) من المعلوم أنَّ هذا الخلْق الذي هو الإنفاق بمالِ الله على عباد الله والدّؤوب على ذلك من غير تطرُّق خوف عُدْمٍ ولا مداخلة ريبة ولا تهمة، ثقةً بالله تعالى وبحكم الاستخلاف المشار إليه في الآية هو من أخلاق الكمل الراسخين في مقامات اليقين، فهو في بساط الولاية نتيجة من نتائج السلوك، وثمرة من ثمرات الوصول إلى معرفة ملك الملوك، ومع ذلك خُوطب فيه سيدنا من حضرة سيد الوجود ، ففيه إشارةٌ دقيقة إلى أن تربيته لم تنفصلْ عن سيدنا في حضرةٍ من الحضرات، ولا في منزل من المنازل، ولا في مقام من المقامات، وتلك في ظهور أثرِ العناية الربانية غايةُ الغايات، وفي أمره باللفظ الذي به خاطب بلالاً الإشارة إلى بيان أصل هذا الخلق ومسنده من الشريعة المطهرة، وأنه لا يتحقَّق به إلا من كان على قدم هذا الصحابي الجليل من المستغرقين في بحر شهود الأحدية كما يشير إليه أثر: «أَحِّدْ أَحِّدْ» (4) فجَمَع له في التربية بين الشريعة والطريقة وتلك في بساط التربية نهاية النهايات، إذ الشريعةُ ما جاء به كتاباً كان أو سنةً أو تقريراً أو إجماعاً، وجميع ما يؤول إلى ذلك من استنباطات المجتهدين ، وهي هنا في الإشارة إلى بيان الأصل والمستند، والطريقة هي الأمر اللازم لأرباب الحقائق والأحوال المختصّ بهم في مقامات الكمال، ومن شأن من قام به هذا الأمر الانسلاخ الكلي عن مقتضات حظِّه وهواه، والتبرِّي التام من مشاهدة حَوْله وقواه والاستغراق الكامل في شهود وحدانية مولاه، بتحقُّق الغيبة فيه عما سواه، وأشعر بهذا، أعني الطريقة هنا، الخطاب بما خوطب به هذا الصحابي الجليل الكامل الاستغراق في شهود الواحد الأحد فافهمْ، والله تعالى أعلم.
وإن كنتَ مَزْكوماً فليْسَ بلائقٍ |
|
مقالُكَ: هذا المِسْكُ لَيْسَ بِفَائحِ |
وهذه اللطيفة تتعلَّق بالكرامة الأولى المشار إليها بقول الناظم: ومنه أن خاتم الرسالة إلى آخر البيت.
(اللطيفة الثانية) في ذكر الكرامة الثانية إشارةٌ إلى أن سيدنا من المتحققين بالقدم السليماني وهم رجالٌ مخصوصُون من هذه الأمَّة المحمدية. قال الشيخ محيي الدِّين في حديث: «إِنَّكُمْ تسألُونَ عن نَعِيمٍ هٰٰذا اليَوْم» ولم يكن سوى تمر وماء، إنَّما لم يدخل نفسه في الجماعة ليعلمنا أن الله عباداً سليمانيين يقول الله لأحدهم: هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص: الآية 39] قال: وهم سبعون ألفاً من هذه الأمة، وقال في عكاشة إنه منهم اهـ. وفي وصف النَّاظم هنا للشيخ بقوله رفيع الذكر رمز لهذه اللطيفة فإن كان قصده فذاك، وإلا فهو من غريب الاتفاق.
(اللطيفة الثالثة) قد تقدَّم لنا أنهم فسَّروا العطاء بالتفضل، وأن المراد محض التفضل الوارد لا على سبيل الاستحقاق والوجوب.
وفيه بشارةٌ من وجهين: أحدهما: أن الكريم إذا شرع في التربية على وجْهِ التفضل فالظاهر أنه لا يبطلُها بل كان كلَّ يوم يزيد فيها: الثاني: أن ما يكون بسبب الاستحقاق فإنه يتقدَّر بقدر ذلك وفعل العبد متناهٍ، فيكون الاستحقاق متناهياً، والتفضُّل نتيجة كرم الله وكرمه غير متناهٍ، فلما دلَّ لفظ العطاء على أنه تفضل لا استحقاق أشعر بالدوام والتزايد أبداً.
(اللطيفة الرابعة) في لفظ «العطاء» أيضاً إشعار بالاختصاص لأن الإعطاء يوجبُ التملُّكَ وهو سببُ الاختصاص، ويدلُّ له أن نبيَّ الله سيلمان قال: «قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ» [ص: الآية 35] فقيل له: هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[ص:الآية 39] وقد تقدَّم عن الشيخ محيي الدِّين أن عكاشة (5) من أهل هذا الاختصاص، وعليه ففي قوله لسعد بن عبادة (6) : «سَبَقَكَ بِهَا عكاشة» (7) إشارةً إليه: وقد حامَ بعضُ شراح الحديث حول هذا فقال: قال ذلك لأنه أوحىٰ إليه أن يجاب في عكاشة ولم يوحِ إليه في غيره، وقيل غير ذلك. وعلى كل حال ففيه مع الإشارة إلى الاختصاص تربيةٌ وتأديب حَسَنٌ كما لا يخفى، رزقنا الله الأدب مع أهل الرتب بمنِّه.
وبيان ما أخذ من التربية وحسن الأدب من هذا الحديث هو أن لا يتمنَّى المريد ما فضل الله به بعضَ إخوانه عليه بأن لا يحمله على طلب ذلك إلا حصوله لأخيه، بل يسأل الله تعالى أن يَهَبه من فضله خيرات الدُّنيا والآخرة على وفق ما يختاره له سبحانه ويرضاه، ويرتقب الإجابة في ذلك على يد شيخه مثلاً متوسلاً في ذلك به ومستمدّاً منه بقلبه، ويستمر على ذلك مفوضاً مستسلماً حتى يفيضَ الله عليه مثلَ ما أفاضه على أخيه أو أزيَدَ أو أنقص من غير اختيار منه، ولا تعيين لذلك الأمر في تلك الساعة، سواء حصلَ له من الاستعداد ما حصل لأخيه الذي نال ذلك أم لا، أو وقع عليه الاختصاص الإلٰهي الذي وقَع على ذلك الأخ أم لا، لما في ذلك من سوء الأدب واستعجال الشيء بدون إبَّان ولا استعداد، بل بمجرَّد الهوى والمنافسة النفسانية لا غير، فوقع التنبيهُ على هذا الأدب في الحديث، أعني في قوله :«سبَقَكَ بها عكاشة» إذ لو أجابَ الثاني لأوشك أن يقومَ ثالثٌ، ولو أجاب لأوشكَ أن يقوم رابعٌ وخامس وهلمّ جرا، وليس كل واحد صالحاً لذلك، وقد قيل في قوله تعالى: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النِّساء: الاية 32] أي من جهة الدنيا أو الدين، لأن ذلك يؤدي إلى التحاسُدِ والتباغض اهـ انظر شرح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري على صحيح الإمام البخاري في باب ما يكره من التمني، وبينا هذا الأدب هنا ووجه أخذه من الحديث تتميماً للفائدة المشار إليها في هذه اللطيفة.
(تكميل) المراد بقول الأولياء: «قيل لي» الإلهام الصحيح المختصّ بالإكبار، وهو أن بقعَ ذلك في نفسه وقوعاً لا يمكن تكذيبُه ولا يصحُّ ردّه ولا يصحبه هوى يثلجُ به الصدرَ وينشرح به القلب، قاله الشيخ زروق. وقال بعضُ المحققين: هو معنى يجده الوليُّ في نفسه من غير تعلُّق بحسِّ ولا خيال، فيخرج إتيان الملك بالأمر الإلَهي كما تخرج الرؤيا الواقعة أيضاً: وذكر الشيخ زروق قول الإمام ابن عرفة الفقير المالكي الشهير رَحِمَهُ اللهُ تعالى في حق الشيخ أبي الحسن الشاذلي رَحِمَهُ اللهُ تعالى. ما يثقل عليّ شيء مثل ما يثقلُ عليّ قوله «قيل لي» قال: ولا أقبله منه ولا من المرجاني المقطوع لولايته. انتهى.
وقال، يعني الشيخ زروق على قول الإمام ابن عرفة هذا رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أما ثقله فمن جهة عدمِ اعتياده وكثرة ما يجري من المدعين بسببه، ولأنه لفظ مُوهمٌ بصورته، ثم هذا الثقلُ ليس بحجة في نفسِه لعدم إبداء الوجْه والدليل فيه، وأما قوله: «لا يقبله» فلا يضرُّه ذلك، وهو على علمه ولا يقدح ذلك في حقِّ غيره، لأن حق الله تعالى في كل أحدٍ لا يتجاوز علمه إلى غيره «ﱹوَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًاۚ» ﱸ [الإسرَاء: الآية 36] اهـ المراد منه وراجع كلامه بتمامه في شرحه بحزب البحر إن شئت.
وبالجملة فما يُلْهَمُه الأولياءُ وتخاطَب به عوالمهم اللطيفة أصلٌ متين من الأصول المعتمدة عندهم. ودليلُه من السنة قوله : «إنَّه كَانَ فِيمَنْ قبلَكُم محدِّثون وإنْ كَانُوا في أُمَّتي فعُمَرُ مِنْهُم» أو كما قال ، ولهذا قال الناظم رحمه الله: «ومثل ذا لن يحظلا». حسبما تقدَّمت الإشارة إليه.
***
(2) التجنيس: أن تتشابه لفظتان في الحروف وتختلفان في المعنى، وإذا اختلفت بعض الحروف فهو تجنيس ناقص، أما إذا تطابقت الكلمتان في الحروف فهو تام، وشرط كل ذلك اختلاف المعنى.
(3) شذر مذر، يقال: تفرَّقوا شذرَ مذَر: ذهبوا مذاهب شتى مختلفين. وفرَق ماله شذر مذر: أي فرَّقه بشكل لا عودة بعده.
(4) رواه النسائي في (السهو: 37)، وأبو داود في (الدعاء: 23)، والترمذي في (الدعوات: 104).
(5) هو عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي، حليف بني عبد شمس، من سادات الصحابة وفضلائهم، هاجر إلى المدينة، وشهد بدراً وأبلى فيها بلاء حسناً، وشهد أحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله وبشره رسول الله أنه ممن يدخل الجنة بغير حساب. وقتل في قتال أهل الردة. انظر أسد الغابة:3/564.
(6) هو سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الخزرجي، أبو ثابت، صحابي، من أهل المدينة، كان سيد الخزرج، وأحد الأمراء الأشراف في الجاهلية والإسلام وكان يلقب في الجاهلية بالكامل (لمعرفته الكتابة والرمي والسباحة) وشهدا العقبة مع السبعين من الأنصار، وشهد أحداً والخندق وغيرهما، وكان أحد النقباء الاثني عشر. ولما توفي النبي طمع بالخلافة، ولم يبايع أبا بكر. ثم هاجر إلى الشام ومات بحوران سنة (14هـ). انظر تهذيب ابن عساكر، 6/84، والإصابة: ت (3167)، وصفة الصفوة: 1/202، وأسد الغابة.
(7) رواه البخاري في (الرقاق: 50)، وفي (اللباس: 18)، ومسلم في (الإيمان:367، 369، 371)، والترمذي في (القيامة: 16)، والدرامي في (الرقاق: 86، 102) وأحمد: 1/271، 401.