التعريف بالشيخ | من كرامات سيدنا

من الكرامات التي أجراها له و على يده ربُّ العباد

 

ثم قال رحمه الله:

(وكمْ فَدافدٍٍ لهُ قَدْ طُوِيتْ

 

وكمْ جماداتٍ لهُ تَكلَّمتْ

وكمْ يَكاشِفْ بِها ممَّا يرى

 

مُطابِقاً لِما بِهِ قدْ أخْبَرا

وكمْ تَصرُّفٍ لِذا الوَليِّ

 

في العالم العُلويِّ والسُّفليِّ

وكمْ عَلِمْنا لَهُ مِن إبراءِ

 

حليفِ أمراضٍ بِلا دَواءِ

وكمْ لَهُ مِن دَفعِ خَطبٍ هائِل

 

ونَصر مَظلومٍ ورَدعِ صائِلِ

وكمْ إغاثةِ لَذي أسفارِ

 

في الضَّنكِ في البِحارِ والبَرارِي

وكمْ مِنَ الوُلاةِ عَنْ مَرتبتِهْ

 

لِظُلمهِ عَزلهُ بهِمَّتِهْ

وكمْ لهُ مِن نصرِ والٍ لَم يَكن

 

مِنْ قَبلِ ذاكَ وَالياً حتَّى يمَن

وكمْ إغاثةٍ بغيثٍ وَابلِ

 

لغَوثنا في عامِ جَدبٍ ماحلِ

وعُدَّ تَكثيرَ طعامِ النَّزْرِ

 

مِن الكراماتِ لِهذا الحَبْرِ

دُعاؤُه كصَارمٍ بَتَّارِ

 

مَددُه كصَيِّبٍ مِزرارِ

فإن دَعا عَلَيْك فالخُسرُ وإنْ

 

لكَ دعا فأنتَ بالخَير قَمِنْ)

(كم) هنا للخبر، وهي التي يخفض ما بعدها كـ «رُبَّ»، وقد يرفعُ تقول: كم رجل كريم قد أتانا (1)، (الفدافد) المراد بها: المسافات البعيدة، ومعنى (طويت) قطعت في أسرع وقت على طريق خرْق العادة، و(الجمادات) جمع جماد، وهو ما لا روح له، و(التصرف) في الأصل: الحُكْم وكذا التصريف، وفرق بينهما بأن التصرُّف يختصُّ بالقهر والتصريف بالأمر، فمقتضى الأول الاستسلام، ومقتضى الثاني الامتثال؛ والمراد هنا: التمكُّن والاقتدار، بمعنى أن يمكِّن الله تعالى بعضَ خواصِّ عباده بانقياد الكون إليه وانفعال الأشياء عن هِمَّته (وحليف الأمراض) هو من صارت الأمراض لازمةً له لا تفارقه كما لا يفارق الحليفُ، أي المعاهد والمعاقد حليفَه، و(الخطب) الأمر الشديد ينزل، و(هائل) من هالَهُ الأمرُ يهوله إذا أفزعه فهو هائل، ولا يقال «مُهْوِل» إلا في المفعول، و(الردع) الزجر، و(صائل) من صَالَ عليه إذا استطال، فهو صائل، و(إغاثة) من أغاثه يغيثه إذا نَصَره وأعانه، وأغاثهم الله برحمته كَشَف شدتهم، (والولاة) جمع والٍ من وليتُ البلدَ وعليه، فأنا والٍ، و(يمن) مِن: مَنَّ عليه يَمُنُّ إذا أنعم،  و(الغيث) المطر، و(وابل) من وَبَلَت السماءُ وَبْلاً من باب وعد ووُبولاً اشتدَّ مطرُها، والأصل وبل مطر السماء، فحذف للعلم به، ولهذا وصف المطر به فقيل: مطرٌ وابل، و(الجدب) بالمهملة المَحلُ وزناً ومعنى، و(ماحل) من مَحِلَ البلد يمحَل من باب تعب، فهو ماحِلٌ إذا أجدب، ويقال: أمحلَ بالألف، واسم الفاعل منه ما حل أيضاً على تداخل اللغتين، وربما قيل في الشعر مُمْحِل على القياس، و(النزر) القليل، و(الحبر) بالكسر العالم، ويجمع على أحبار مثل حِمْل وأحمال، والحَبْر بالفتح لغةٌ فيه وجمعُه حبور كفلس وفلوس؛ واقتصر ثعلب على الفتح وبعضُهم أنكر الكسر اهـ، و(الصارم) القاطع من صرم السيف احتدَّ، و(بتار) فعَّال من بَترهُ إذا قطَعه، و(دعا) في الشرِّ يتعدى بعلى وفي الخير باللاَّم.    

يقول: لهذا الشيخ من الكرامات التي أجراها له و على يده ربُّ العباد أنه:

-         كثيراً ما طويت له المسافات البعاد،

-         و كثيراً ما كلَّمَتْه بالنطق الفصيح أصنافُ الجماد،

-         و كثيراً ما كُوشِف بالمغيَّبات، و أنبأ بظهور ما سيظهر، فكان ظهورُ ذلك المخبر به على وفق ما به أخبر،

-         و كثيراً ما انقادتْ لتصرُّفه العوالم الكونية،

-         و كثيراً ما حصَلَ لأصحاب الأمراض المعْضِلة الشفاء ببركة همَّتِه السنية؛

-         و كثيراً ما صرف الله تعالى علي يده الخطوبَ الهائلة،

-         و كثيراً ما نصر الله تعالى به المظلوم، فردت عنه إذاية الأيدي المستطيلة الصائلة،

-         و كثيراً ما أغاثَ الله من أشفى على البوار (2) في مضايق الأسفار التي تعرض في البراري و البحار،

-         و كثيراً من الولاة الجائرين المعتدين عَزَله عن ولايتِه يهمَّته العالية في الحين،

-         و كثيراً ما ارتَفَعَ به سافلٌ و عزَّ به خاملٌ،

-         و كثيراً أغيثت بدعوتهِ البلادُ فسُقِيَتْ بعد المَحْلِ الشديدِ وابلَ الغيثِ و صوب العهاد (3).

-         إلى غير ذلك مما عدَّ له من كراماته الباهرة، كتكثير الطعام القليل بدعوته أو ملمس يده الطاهرة، و كاستجابة دعوته التي هي كالصارم البتَّار، و فيضان مَدَدِه الذي هو كالغيث الصيِّب المدرار.

 

و يحتمل أن يكون النَّاظمُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عقَدَ في هذه الأبيات ما هو مذكور في «جواهر المعاني» على طريق الإجمال جَرْياً على طريقة مؤلفه رَحِمَهُ اللهُ تعالى من عدم الاحتفال بتفضيل ما ضمنته الأبيات من أنواع الخوارق وأصناف الكرامات.

ونصَّ ما عقده على هذا الاحتمال مما في «جواهر المعاني» بعد كلام في المعنى، وقد شاهدنا من سيدنا ما لا يُحصى ولا يستقصى من الخوارق العظام والكرامات الجسام ففي الغيبة والحضور، وفي السفر والإقامة، وفي جلِّ الأمور وهي على أصناف مختلفة الأوصاف ما بين تصريفاتٍ من رفع خطوب، ونصر مظلوم، وتكثيرِ طعام، وإبراء عاهة، وبين مكاشفات، وإجابة دعوات إلخ، وانظر كلامه بتمامه في هذا المحل.

ويحتمل أن يكون قصد الإشارة إلى قضايا معلومة عنده في ذلك مما تلقَّاه من ثقات أصحاب سيدنا ، بناءَ على ما قدمناه من أنه يكون رأى النهي عن تدوينِ الكرامات الحسية، إنما كان حيث كان لا زالَ في قيد الحياة.

وعليه، فأما ما أشار إليه في البيت الأول من هذه الأبيات من طيِّ الأرض، فلم يبلغنا فيه إلا ما تقدَّم من كون القطبانية نزلَتْ عليه بجبل عرفات من مكة المشرفة، و أنه كان في التاريخ المذكور لذلك بفاس لم يَبْرح منها، وهذا يحتملُ ما وجَّهناه به فيما تقدَّم من أن القطبانية نزلت على الذات التي بمكة لا تبرح منها، فيكون من باب تعدُّد الصورِ بالتمثل والتشكُّل كما يقع ذلك للجان، وهو أحدُ الوجوه التي وجَّه بها المشايخ تطوّر الولي.

ويحتمل أن يكونَ من باب طيِّ المسافة وزَوْي الأرض (4) من غير تعدُّد صور، بل بطيِّ الأرض ورَفْع الحجب الحائلة بحيث يتراءى في مكانين أو أمكنةٍ متعدِّدة وهو من مكان واحد قالوا: وهذا أحسنُ ما يُحْمَل عليه حديث رفع بيتِ المقدس حتى رآه النبي حال وصْفِه إياه لقريش صبيحة الإسراء، وهذا ثاني الوجوه التي وجّه بها تطور الولي أيضاً، وهو صريحٌ في معنى ما أشار إليه النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى، ومن هذا أيضاَ من قدَّمناه من دخول سيدنا على الرجل المتقدِّم في خلوته التي أذن له في الدخول فيها، وهي ببلد الرجل وبين بلده فاس مراحلُ متعدِّدة، والشيخ إذ ذاك بفاس.

ويحتمل الوجهين السابقين، وثانيهما صريحُ الناظم أيضاً، ومن ذلك دخولُه على بعض خاصة أصحابه المشهود لهم ببلوغِ مقام المعرفة بالله تعالى، وهو في منزله يطالع كتاباً لبعض الأكابر، فصدر منه تعظيمٌ زائد لذلك الكبير كادَ أن يفضي به إلى الالتفات المضرِّ بالمريد الصادق في طريق التربية، فزَجَره وأخذ بيده وأقامَه وقال له: يا فلان أنت تجاني، أو كذا، وذكر له النسبة إلى ذلك الكبير، ويقع في وهمي أن الصاحب المذكور كان بفاس والشيخ بالصحراء، وعلى كل حالٍ فهي من قبيل ما قبلها.

ومما بلغنا مما اتفق لسيدنا من هذا النوع أيضاً أن رجلين من خاصَّة أصحابه كلاهما مشهودٌ له بالفتح كانا سافرا والشيخُ في قيد الحياة إلى الحج لبيت الله الحرام، فوقع بينهما ذاتَ يومٍ شيء من المخالفة، فأساء أحدُهما لصاحبه بما تغير باطنه عليه، فانتهيا في ذلك اليوم أو في الذي بعده على بئر ماء وقد أضرَّ بالناس وبالإبل العطش، فنَزَل السيد الذي كانت صدرتْ منه إساءةٌ لصاحبه إلى البئر من طريق ينزل إليها منها وإذا جَمَل قد توهَّم أثرَ الماء، فأسرع إلى البئر وحَمَله على ظهرِه وقد أضرَّ به الظمأ، فرفع ذلك الصاحبُ رأسه فلم يشكَّ في سقوطه عليه فتداركه الله بلطفه بأن خَطَر ذِكْر الشيخ والاستغاثة به بباله، وإذا هو الشيخ بينه وبين الجملِ فردَّه عنه وأقبل بوجهه على الصاحب المذكور وقال له: الله في أصحابي، يريد ، أتؤذي أصحابي؟ ثم غاب عنه الشيخ ، فعرفَ أنه إنما أتى عليه في تلك المصيبة التي خلَّصه الله منها على يد الشيخ من جهة إساءته إلى صاحبه، فأتاه من حينه وتحلَّل منه وترضَّاه حتى رضي. 

وهذا أيضاً صريحٌ في طيّ الأرض على ما تقدَّم توجيهه، وهو أيضاً من إغاثته لمن استغاثَ به في الشدة والضنك، فافهم والله تعالى أعلم، وهذا كافٍ في شرح ما أشار إليه النَّاظمُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى واقتصرنا عليه لثبوته عندنا الثبوتَ الصحيح بطريق التواتر لبعضه، وبنقل الثقة الضابط عن مثله في بعضه، ونعوذ بالله تعالى أن تجري على ألسنتنا أو أقلامنا في هذا المقام ما هو شبيهٌ بالخرافات التي لا مستند لها إلا التخيُّلات والأوهام، ولولا أن بعض من يتأكَّد على الامتثال لإشارته من فضلاء الإخوان أكد عليّ مراراً في التعرض لمثل هذا مما يرجى عَوْد نفعِه على عامة الفقراء ما ذكرت منه شيئاً سدّاً للذريعة في هذا الباب، والله الموفق للصواب.

وأما كلام الجمادات فلم يبلغْنا فيه شيء نسطِّره، ولعلَّ النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى حفظ في ذلك شيئاً، ولا غرابة فيه في الجملة، والله تعالى أعلم. 

وأما مكاشفته بمعنى إخباره بالأمر قبلَ وقوعِه فيَقَع على وفق ما أخبر به، فلا يكادُ ينحصِرُ ما حدَّث به الثقاتُ عنه . وقد ذكر في «الجامع» أنه كان كثيراً ما يسترُه بقوله: قلبي يحدثني بكذا، أو وَقَع في خاطري كذا، فيخرج كما قال. وذكر فيه أيضاً ما يفيد أنه كان يخبرُ بقدومِ الغائب قبل أن يقدم، فيكون ذلك وفقَ ما أخبر به. وذكر من ذلك أنه أخبرَه مرةً وهو معه في بلادِ الصحراء بقدوم الأمير الظالم إذ ذاك فكان ذلك، وأنه كان أخبره مرةً أخرى بخرابِ قريةٍ قبل وقوعه فوقع، وأنه أخبره مرةً أخرى أيضاً بقدوم بعض أصحابه، فكان كما قال اهـ. ومن معنى ما ذكره صاحب «الجامع» رَحِمَهُ اللهُ تعالى من أنه كان يستر هذا النوع من الكشف بقوله: قلبي يحدثني إلخ، ما بلغنا عنه من أنه كان كثيراً ما يتمثَّل بقول بعض أهل الأحوال من مشاهير رجال الصحراء، ونصّه: وهو من الكلام الملْحُون ثوبي شين ورمتي ما تملأ العين، قلبي زين يحب الخير البعيد اهـ، وقوله: رمتي يريد جثني.  

ومن هذا الباب إخبارُه عن استيلاء أعداء الدين على بلد الجزائر وعملها. وقد كان على ما تلقَّيناه من فضلاء أصحابه كثيراً ما يشير إليه بما يفيد تحقق وقوعه تارةً تصريحاً وتارةً تلويحاً.  

وذكر حكامها يوماً، وقال فيهم: إنهم كفارٌ لنَبْذِهم الأحكام الشرعية وتقديمهم القوانين الفرنجية عليها واكتفائهم بذلك، ثم دعا عليهم بـأن يسدّ الله أبواب الرحمة في وجوههم كما سدَّت في وجوه أهلِ البلد العلانية، وذكر بلاداً استولى عليها أعداء الدين والعياذ بالله تعالى، ودعاؤه عليهم بهذا في بساط الشريعة وجهه الغيرة الإيمانية، وفي بساط الحقيقة مجاراة ما كُوشِف به في سرِّه من نفوذ الأقدار الربانية. ولا يقال على مثل هذا مما يصدر من أمثال هذا الشيخ الكبير لو دعا لهم بالهداية مثلاً لكان أولى، لأنهم غَرْقى في بحار المشاهدة وجميعُ حركاتهم وسكناتهم في جميع أفعالهم وأقوالهم جاريةٌ على حكم ما يتجلَّى الحقُّ به على قلوبهم، وأيضاً قد روي في بعض الأخبار: إذا أرادَ الله بقومٍ سوءاً يوحي إلى قلوبِ أوليائه لا تسألوني في أمرِ القوم فإنِّي عليهم غضبان، فيجيبونه بطلبِ النجاةِ لأنفسهم: «اللَّهُمَّ سلِّمْ سَلِّم».

ومن تلويحاتِ سيدنا الشيخ إلى الاستيلاء المذكور ما حدثنا به فضلاء أصحابه أنهم كانوا معه ذاتَ يومٍ فاجتاز بهم ولدُه سيدي محمد الكبير قدَّس الله سرَّه، فنظروا إلى الشيخ وقد أتبعه بصَره كالمتفكِّر فيه حتى غاب عنه، ثم قال الهواري ما اجتاز ولده، وأشار على قضية الهواري (5) الولي الصالح مع أهل وَهْران (6) وانتصار الله تعالى له بما انتصر له به مما هو معلومٌ من قضية، وفي ذلك إيماءٌ إلى قضية ولده المذكور مع أهل تلك البلد المذكورة، وفيه إشارة إلى أن الواقع بها هو من انتصار الله تعالى لأهل خصوصيته، فكان الأمر كذلك. وقد قال بعضُ الكبار: إذا أرادَ الله صلاحَ زمانٍ وأهله كان انتصاره لأولياء ذلك الزمان فيما يصدرُ لهم من العامة ظاهراً في الأموال والأبدان، وإذا أراد الله فساد زمان وأهله كان انتصارُه لهم باطناً في الأديان ليمتدَّ ضلال أهل العصيان اهـ، من «ابتهاج القلوب» مختصراً ولسنا بصدد بسط القضايا التي هي من قبيل ما أشرنا إليه لاستدعاء ذلك التطويل والخروج عن الغرض، فافهم. 

 ومن أخبارِه بالغيب من طريق كشْفِه إخبارُه بأمور لم تقَعْ إلا بعد وفاته إما بالتصريح أو بالتلويح، فأخبرَ بالفتنِ التي وقعتْ بالقربِ من وفاته في الغرب، فكان الأمرُ وفقَ ما أخبر به، وأخبرَ بالمسغَبَةِ العظيمة (7)، أعاذَنا الله منها التي كانت بعد وفاته بنحو تسع سنين، وذلك على ما أخبرني به بعضُ خاصَّة أصحابه بطريق التلويح، قال المخبر: كنتُ معه ببابِ داره ذاتَ يومٍ فأمر بإخراج القمح للرحى على العادة، والوقتُ وقت خصبٍ ورخاء، قال: فالتفت إليّ وقال لي: يا فلان ادعُ العبيد ليصحبوا هذا القمحَ إلى الرحى، قال: فقلت له: يا سيدي الرحى قريبةٌ ولا حاجة بنا إلى العبيد، قال: ادعُ العبيد ومُرْهم أن يصحبوه لئلا يُنهبَ في الطريق. وحدثني المخبر أيضاً أنه فعل مثل ذلك في تلك الأيام مرَّةً أخرى في الخبز وقد أخرجوه من دارِه ليحمل إلى الفرن، قال: فلمْ نفقَهْ ذلك حتى وقَعَ الغلاءُ الكبير عام أربعين ومائتين وألف فصار الناس يحتاجون إلى مثل ما أمرَ به الشيخ .

ومن هذا المعنى أيضاً ما حدثني به الخاصّ المذكور، وهو أن الخليفة المعظم سيدي علي حرازم كان حين أرادَ التوجُّه لبيتِ الله الحرام يذكر لبعض الخاصَّة ممن يسارُّه بالأمور أنَّ النبيّ زوَّجه ببنتٍ بتونس، وكان يصفُها وربما ذكر اسمها واسم أبيها ثم لما سافر ووصل تونس حَرَسها الله كان ما أخبر به، قال المحدث: فلم نلبَثْ أن جاءنا الخبر بأنه طلَّقها، قال: فكان يقَعُ في باطني شيءٌ من جهة تطليقه إياها، وهو أخبر أن النبي زوَّجه بها، قال: وكان الشيطانُ لعنه الله كثيراً ما يكدِّرُ عليه وقته بالوسوسة في ذلك، وخصوصاً حين يطيب وقته، قال لي: فجلست يوماً مع الشيخ ولم يحضرْ معنا ثالث، فطاب لي الوقتُ بمحادثة الشيخ ولانَ القلبُ وخشعت الجوارحُ، فلم أشعرْ حتى ألقى ذلك الخاطر ببالي واشتغل به فكري وكدَّر عليَّ صفوي فرفع بصَره إليّ وأدنى رأسَه مني وقال لي: كانت لا تصلِّي، ولم يزدْ على ذلك شيئاً؛ قال: فعلمتُ أن ذلك موجبٌ لطلاقهِ إيَّاها وأن النبي لم يقرَّه معها على ذلك اهـ.

قلت: ثم بعدما حدَّثني هذا السيد رَحِمَهُ اللهُ تعالى بهذه الكرامة بمدَّةٍ وقَع بيدي ورقات بخط سيدي علي حرازم فإذا هي مشتمِلةٌ على مطالب عديدة لنفسِه ولخاصته وأقاربه، وإذا من جملتها الدعاءُ لتلك الزوجة بأن تحبَّب إليها الصلاة، وهذا موافِقٌ لما أجاب به الشيخ من طريق الكشف، وهذا بابٌ واسع جدّاً لا يمكن استيفاء نزرِ النزر منه، وانظر في «جواهر المعاني» ما ذكره مؤلفه رَحِمَهُ اللهُ تعالى فيه من نفوذ بصيرته وصدق فراسته في صحابه وجلسائه ومعرفته جميع ما اشتملت عليه ضمائرهم على اختلاف طبقاتهم وأحوالهم، وأنه كان كثيراً ما يجالِسُه الإنسانُ فيتكلَّم له على ما أشغل باطنه من الهوى والأمور الدنيوية، ويعين النوع الذي شَغَله منها بطريق الإشارة العامة والإجمال ونوع من ضرب الأمثال من غير تعيين يعرفُ به صاحب ذلك، وذلك مثل أن يقولَ: ما بالُ أقوامٍ يفعلون كذا يقولون كذا، أو أن يذكُرَ ذلك الفعلَ من غيرِ أن يعيِّنَ صاحبَه ويقول:حق من يفعلُ كذا وكذا اتباعاً للسنة في جميع ذلك، ومن هذا المعنى ما كان عليه أمره في الإشارة على من استشاره، فإنه لا يشيرُ عليه إلا بما فيه نجاحُ حالهِ وفلاحُ مآله، وكان من المعلوم عند أصحابه في الاستشارة أن المعتَبَر عندهم الذي عليه المعوَّل هو ما نطَقَ به في الكلام الأول، فإن الْتَقَطه المستشيرُ عَثَر على حكمةِ الإشارةِ، وانقلب بغنيمة وتجارةٍ، وإن لم يقبَلْ منه وراجَعَه في الكلام جاراه في كلامه حتى ينصرِفَ من غير أن يعثر على المراد، ولا أن يحصلَ على ثمرةِ الكلام إلى آخر ما ذَكَره في «الجواهر» في هذا المحلِّ فراجعه إن شئت. 

وقد حدَّث بعض أصحابه أنه أتى ذاتَ مرَّة بصوفٍ من البادية إلى فاس ليتَّجر فيها، فلما وصل إلى فاس وَجَد سوقها كاسدة، فاهتمَّ لذلك. ثم إنه أتى الشيخ قاصداً استشارته في ذلك، فوجَدَ أصحابه قد أحاطُوا به ، فسلَّم على الشيخ وجَلَس، فلم يلبَثْ أن سألَ الشيخ بعضُ أصحابه عن سِعْر الزيت فقال: كذا، ثم سأل عن السمن ثم عن اللَّحم وغير ذلك حتى انتهى إلى الصوفِ فقيل له: إن سوقها كاسدةٌ، فقال الصوفُ من الأمورِ المهمَّة التي لا يستغني عنها الناس، فلا بد أن يرتفع سُوقُها، فمن كانت له صوف ينبغي له أن لا يضجر منها بسببِ ما عرض من رخْصها بل يجعلها في محلٍّ يحفَظُها فلا يمضي عليه نحو كذا وذَكَر عدَّةً من الأيام إلا وقد ارتفعَ سوقُها، فأخذ الرجلُ جوابه عن مسألتِه من ذلك من غير أن يشعرَ بذلك أحدٌ من الحاضرين، فقامَ من حينهِ واكْتَرى لها محلاً، وجَعَلها فيه مطمئناً طيِّبَ النفسِ، فلما كان في آخر المدة التي عيَّنها الشيخ إذا هو بأناس يطلبونه، فاشْتَرُوها منه ورَبِحََ فيها ربحاً معتبراً ببركة إشارة الشيخ  .  

وأما تصرُّفه فمما لا يحتاج إلى تفصيلٍ وما هو إلا من حديث البحر، وكأن النَّاظم أشار بالبيت ما ذكره في «جواهر المعاني» من قوله ومن كماله وعلوّ منصبه الشريف، ما أوتيه من مقام الخلافة وخطة التصريف، ووليِّه من النيابة والتحكيم، والأمر النافذ العميم، إلى آخر كلامه. وقد تقدَّم الكلامُ في مبايعة جميع المخلوقات للقطب، الأرواحُ وغيرها، كما تقدَّم أيضاً عن الشيخ مولانا عبد القادر الجيلاني من قوله: إن للقطبِ ستة عَشَرَ عالماً إحاطياً، الدنيا والآخرة ومن فيها عالمٌ واحد من هذه العوالم، كما تقدم عن سيدنا أن القطبية هي الخلافةُ العظمى عن الحق تبارك وتعالى مطلقاً في جميع الوجودِ جملةً وتفصيلاً، حيثما كان الربُّ إلَهاً كان هو خليفةً في تصريف الحكم وتنفيذه في كلّ من عليه ألوهيةٌ لله تعالى إلى آخرِ كلامه المبين. معنى قول النَّاظم في العالم العلوي إلخ.

وذكر في «الجامع» صاحبه رَحِمَهُ اللهُ تعالى ما نصّه: ومنها، أي من مناقبه ، أننا كنا يوماً نذكر بين يديه ما يشاهدُ الأولياءُ من الخوارِق، فقال لنا : ما وَقَعَ لي هذا إلاّ مرَّةً كنتُ سِكرْتُ من أول النَّهار إلى بعد العصر، فشاهدتُ عوالمَ لا مثالَ لها في هذا العالم ولا مما يصوِّره الفكرُ، وكأنِّي ملكٌ عليها أتصرَّف فيها اهـ. ومثل هذا كان يصدرُ عنه في أول أمره كما ذكَره صاحبُ «الجامع» في غير هذا المحل، وكذا صاحبُ «الجواهر» وفيه على كلِّ حال شاهد لكلام النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

وأما حصولُ البُرْءِ والشفاء من الله تعالى لمن توجَّه إليه واشتشفى من أدوائه المعضلة بتقديم همَّته، فهو مما لا يأتي الحصرُ على تفصيلاته في حياته وبعد مماته، وذلك بمجرَّد التهمُّم بذلك بين يديه قيدَ حياتِه أو نحو ذلك، كالاستغاثة به والقصْد إلى ضريحه الأنور بعد وفاته، وقد كانَ بعضُ علماءِ فاس يعتريه ألمٌ نحو المسمى عند الأطباء بماليخوليا، فكان من عادته إذا أحسَّ بمبدأ ذلك الألم، أعاذنا الله منه، يأمرُ بحمْلِ فراشِه إلى زاوية الشيخ ويقصدُ مجاورته بنيَّةِ الاستشفاء، فكانَ يحصلُ له مرادُه ببركةِ الشيخ ، ولذلك حضَّ على ملازمةِ حِمَى الشيخ في قوله في أبياتٍ أنشأها في مدح سيدنا يقولُ فيها:

إنَّ التجانيَّ تاجٌ لا نَظيرَ لَهُ

 

الله صرَّفَه فِينا وولاَّهُ

لَهُ ضريحٌ سَمَتْ بهِ بُلَيْدَتُنا

 

فلم تَزَلْ دورُها بعينِ مَرْآهُ

من عينِ ماضٍ أتَى فجاه كلّ فتى

 

من بحرِه يَسْتقي إذا طابَ سُقْياهُ (8)

ومنها:

فـﭑسرُدْ مناقِبَه فإنَّها دُرَرٌ

 

والْزَمْ حِماهُ تَنَلْ مَعِينَ سُقْياهُ

وعلى قوله: «سمت به بليدتنا» يعني البليدة الحومة المعروفة بفاس التي بها زاوية سيدنا ، يأتي ما بلغنا متواتراً عن أصحاب سيدنا ، من أن بعض أرباب الأحوال كان يشيرُ إلى تشرُّف هذه الحومة بمزية مدفن الشيخ بها، فكان يقول تحصَّنت فاس وخصوصاً الدرداس، يعني الحومة المذكورة لأنها يقالُ لها الدرداس أيضاً وعلى قوله: «فلم تزل دورها» إلخ ما بلغنا من قول سيدنا في قضية معروفة: جيراني ما تجوزُهم في الدنيا ولا في الآخرة، يعني بغيتهم ويشفعُ لهم ويأخذ بأيدي العاثرِ منهم في الدنيا والآخرة.

وأما ما ذكره عن الشيخ من دفْعِ الخطوب الهائلة ونصر المظلوم ودفع الأيدي الجائرة الصائلة فمن الشائع المعلوم الذي يضيقُ القولُ عن حصرِ ما اتفق منه للخصوص والعموم.

وقد حدَّثني بعض الشرفاء الأفاضل الأخيار ممن أخَذَ عن سيدنا الشيخ أنه كان قاطناً ببلاد البربر بأهله، فلما كانت السنةُ التي جَمَع فيها الفتانُ الشهير بأمهاوش جميع قبائل البربر وتحزَّبوا على أن يتَّبعوه على أن يدخلَ فاساً ويفسدَ مُلْكَها ويعيث في أرضها، فوافقوه على ذلك وساروا بما لا يُحصى كثرةً من الخيل والرجَّالة، قاصدين إلى فاس، قال المحدِّثُ: فسِرْت معهم مختفياً وقصدي الاجتياز إلى فاس، فلما نزلوا بأقربِ الجبال من فاس تركتُهم ومضيتُ إلى فاس، وكان من أهمِّ الأمور عندي بفاس الانخراطُ في سلك سلسلة أهل الله تعالى، فاتفقَ أن ذُكِر لي الشيخ وطريقته وبعض فضائلها فسألت عنه، ثم قصدتُ إليه في الحين فإذِن لي في الدخول عليه بباب داره، فألفَيْتُه مشتغِلاً بالذِّكْر وهو قائمٌ يذهب ويجيءُ، فأشير علي بالجلوسِ حتى يفرغَ، فجلست حتى إذا فرغ قمتُ إليه وسلَّمت عليه فسألني من أين أقبلت؟ وعن نسبي وأحوالي ومقصدي؟ فأخبرته ثم طلبتُ منه تلقينَ وِرْدِه فلقَّنني، ثم استشرتُه في الانتقال من بلاد البربر إلى بعض المدن، فقال لي: نساؤهم يصلِّين؟ مستفهماً مني عن ذلك، فقلت: يا سيدي بعضهنَّ يصلِّي. فأشار إلي بعدمِ الانتقال في ذلك الوقت، وحين أردتُ توديعه سألني عن الفتان المذكور ومن معه وماذا يريدُ فأخبرتُه بما هو عليه هو ومن معه من القوة والشدة وبما يريدون، فالتفتَ إلى ناحيتهم ومدَّ كفَّه وقال فيها: «أف» ثم توادَعْتُ معه ودعا لي بخير، فتوجَّهت من حيني وخرجتُ وفي صبيحة الغدِ وصلْتُ إلى المحلِّ الذي تركتُ به أمهاوش ومن معه، فسألت عنهم، فقيل: انهزَمُوا بالأمس وقت كذا، وساروا لا يلوي أحدٌ منهم على أحدٍ، ولم يدرِ أحدٌ ما سبب ذلك، قال: فلم أشكَّ في أنهم هُزِموا في الساعة التي نفخ الشيخ نحو ناحيتهم، وأن الله تعالى ألقى في قلوبهم الرعبَ ببركةِ همَّةِ الشيخ .

وأما إغاثتُه لمن استغاثَ به من المسافرين في البر والبحر فهو شيء لا يأتي عليه الحصر، ومن ذلك ما تقدَّم قريباً في شأن الرجل الذي أغاثه، وهو في البئر وخلَّصه من سقوطِ الجمل عليه، ومنها غير ذلك.

وقد حدَّثني من أثِقُ به من أهل العلم وشرف النسب أن بعض فقهاء تلمسان أعادها الله دارَ إسلامٍ ممن استوطن حضرة فاس، وكان من جملة المدرِّسين بالقرويين أنه حدَّثه فقال له: إني كنت في حال شبيبتي ارتحلتُ من بلدنا تلمسان إلى فاس بقصدِ قراءة العلم، فكان من جملة من قرأتُ عليه من العلماء بها فلان، وذكر له صاحب سيدنا سيدي محمد بن المشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى، قال:وحين أزمعتُ السفرَ من فاس والرجوع إلى بلدي أتيت مشايخي بقصد توديعهم وطلب صالح الأدعية منهم، والوصية لي بما ينفعني الله تعالى به على العادة في ذلك، ومن جملة من أتيتُه من المشايخ بذلك القصْدِ السيد المذكور آنفاً، فكان من وصيته لي أن قال لي: إذا كنتَ في شدَّةٍ وضيق فاستغثْ بهذا الرجل يعني الشيخ ، وأكَّد عليّ في ذلك، قال: فسافرت إلى بلدي، ثم سافرت من بلدي بعد ذلك قاصداً حجَّ بيت الله الحرام فركبتُ البحرَ، فكانَ من قَدَرِ الله تعالى أن تكسَّرتْ بنا السفينةُ التي كنا بها، قال: فبقيت أنا ونحوٌ من السبعة يحملنا بعض ألواح السفينة حتى ارتفعتْ لنا جزيرة بوسط البحر، فتحامَلْنا إليها وجلسنا ننتظرُ الموتَ لا يكلِّم أحدٌ منا أحداً، فبينا أنا أفكِّر إذ ألقى الله تعالى ببالي مدينة فاس والفقهاء الذين كنت أقرأُ عليهم، فوقعتْ الوصيةُ ببالي فاستغثت بالشيخ ، وأنا في تلك الحال، فأخذني شبه سنةٍ (9) وإذا بالشيخ وقَفَ أمامي وقال لي قل: يا عليماً بالألْطافِ نجِّنا مما نخاف، قال:فانتهيتُ وأنا أقولها، فلم أمامي وقال لي قلي: يا عليماً بالألْطافِ نجِّنا مما نخاف، قال: فانتبهتُ وأنا أقولها، فلم نلبثْ إلا قليلاً وإذا بسفينة ظهرتْ لنا فظهرت أشخاصنا لرئيسها فقصَدَ الجزيرة وحَمَلنا وسارَ بنا حتى أنزلنا حيث الأمنُ من البر، قال: فأرَّختُ ذلك اليوم ولما رجعتُ إلى فاس سألتُ عن الشيخ فقيل لي: مات، فسألتُ عن تاريخ وفاتِه فألقيتُ اليوم الذي وَقَع لنا فيه ما وقَع وشاهدتُ فيه تلك الكرامة العظيمة هو اليوم السابع من يوم وفاته .   

وأما عَزْلُه الولاة الجائرين بتوجُّه همَّتهِ العالية في ذلك، فقد تواتر منه قضايا متعددة منها: أن بعضَ ولاةِ فاس، وكان من المتمرِّدين العتاة (10)، كان حين سمِعَ بما يؤثر عن الشيخ من المناقب وما يتحدَّث به عنه من بلوغه أسنى المراتب كأنه استغربَ أن يكون مثل ذلك في هذا الزمان، فحَمَله ذلك على أن أتى الشيخ مظهراً أنه أتاه متبركاً زائراً، وهو إنَّما أتى مختبراً، فلما رجَعَ لمحلِّه وجلس مع من يعظّمه ويشايعه تناولَ دار الشيخ بشيء من  الذمِّ من حيث أنه لم يرَ بها ما يؤذن بالرفاهية، لتباعد الشيخ عما يشير إلى ذلك إلى الغاية، فبلغَ ذلك الشيخ فقال: أما دارنا فهي دارُ الخير، وأما دارُه فها أنا أراها قفراء خاليةً، فعُزِل ذلك الولي عن قريب وسُلِب ونكب وخلتْ دارُه وانمحقت آثاره، ولم يبقَ له ذكرٌ والعياذ بالله تعالى.

ومن ذلك أيضاً أن والياً آخرَ اتفق أن رُفِعتْ إليه شكايةٌ ببعض مماليكِ الشيخ فقبض عليه، ولما كلَّم فيه تجاهل وقال: إني لا أعرفُ سيدي فلاناً، يعني الشيخ ، فلما سمِعَها قال: اليوم يعرفني، فاتفقَ أن أتاه الخبرُ في ذلك اليوم أن بعض قبائل البربر أتوا ليغزوا قبيلته وقصدُهم نهبَ دارِه التي هي بالبادية بوسط قبيلته، فخرج من الغدِ فوجَدَ الغَزوَ على وجْهِه، فلما التقى الجمعان أُصِيب برصاصةٍ خرجَتْ معها روحُه فسقط عن فرسه ميتاً وانهزَم مَنْ معه ونُهِبت داره وبقيت جثُته بلا دفنٍ نحو الأربعة أيام حتى أمن على أقاربه أعداؤهم، فحَمَلوه على شرِّ حالٍ، وكان بعضُ أقاربِه فيمن حملها وله محبة في جانب الشيخ يخاطبُ تلك الجثة ويقول: هل عرفته أم لا تعرفه؟ يكررها، وقريبه هذا هو أحدُ من حدثني بهذه الكرامة، وحديثُه أوعبُ ما سمعتُه فيها لحضوره الأمرَ من أوَّله إلى آخره، وولي مكانَ هذا الوالي رجلٌ كان والياً للسلطان في أول أمره ببعض البلاد، ثم عُزِل وصارتْ حالتُه من الكسوفِ إلى أحطِّ المراتب، فصار بعد الولاية بواباً لبعض أقارب السلطان، فاتفقَ له قربُ موتِ الوالي المذكور أن اجتازَ به بعضُ الخاصة من أصحاب سيدنا السيخ ، فقام إليه وتعلَّق به وقال له: يا سيدي أما تنظرُ ما صارَ إليه حالي؟ أما تستعطفُ لي هذا الشيخ، لعلَّ الله تعالى أن يجبر كسري، فأمره ذلك الخاصّ أن يرافقه إلى دار سيدنا الشيخ  ، فدَخَلَ معه واستعطف له قلبه فأقبلَ عليه ودعا له، فبعد ذلك بأيامٍ يسيرة وَرَد على السلطان خبرُ موتِ الوالي المتقدِّم، فأوقعه الله تعالى بباله، فدعا به من حينه وولاَه مكانه وحسنت سيرتُه، ولم تزلْ حالته مرضيةً إلى أن توفي رحمة الله تعالى عليه والخاصُّ المذكور هو الذي حدَّثني بهذه الكرامة مراراً، وتولية هذا الثاني ببركة دعوى سيدنا شاهدةٌ لما أشار إليه النَّاظم في قوله: وكم له من نصر والٍ لم يكن، إلى آخر البيت السابق، والله تعالى أعلم.

وأما ما تضمنته الأبياتُ الأربعة الباقية فكلُّه من الشائع المعلوم الذي لا تحتاج قضاياه على تفصيلٍ لشهرتها بين الخصوص والعموم.

وفي هذا القدر مما قصدنا ذكره في هذا المحلِّ كفاية، ولعلَّنا نتعرَّض لغير هذا من الكرامات في غير هذا الموضع إن شاء الله تعالى، والله المستعان وعليه التكلان.

 


 

****


(1)  «كم» التي يأتي بعدها مجرور هي خبرية يكنى بها عن العدد الكثير في مقام الافتخار والتعظيم، والكلام معها خبري.

أما تلك التي يأتي بعدها منصوب فهي استفهامية، والكلام معها إنشائي، وقد يأتي بعد الاستفهامية مرفوع بتقدير تمييز منصوب محذوف.


(2) 
 أشفى: أشرف، والبوار: الهلاك.
(3)  العهاد: مطر أول السنة، مفرده: عَهْدَة. والصوب: الغزير.
(4)  زوى الشيء يزويه زَياً: جمعه أو قبضه.
(5) الهواري: محمد بن عمر الهواري، أبو عبد الله، متصوف، فقيه، مالكي، عالي الشهرة في المغرب، له أخبار كثيرة. ولد في معزاوة، وتعلم بباجة وأقام بفاس، ورحل إلى المشرق رحلة واسعة ثم استقر وتوفي في وهران سنة (843هـ). وكان زاهداً متقشفاً، متباعداً عن الملوك والأمراء، وقال أحد الفرنسيين عنه «كان يقرأ الأفكار فيحدث كلاً بما في نفسه». انظر نيل الابتهاج: 303، والبستان: 228.  
 (6) وهران: مدينة على البر الأعظم من المغرب بينها وبين تلمسان ليلة، وهي مدينة صغيرة على ضفة البحر وأكثر أهلها تجار. انظر معجم البلدان: 5/385.
(7)  المَسْغبة: المجاعة والجائحة.
(8) ظاهر أن هذه الأبيات مختلفة الوزن، ويبدو أن اللهجة الشعبية طغت عليها.
(9)  السِّنة: النعاس.

(10)  العتاة: المعتدون الظالمون.