التعريف بالشيخ | الإشارة إلى زمن جمع كتاب "جواهر المعاني"

الإشارة إلى زمن جمع كتاب "جواهر المعاني"

ثم أشار النَّاظمُ رَحِمَهُ اللهُ إلى زمن صدور الأمر من سيدنا لخليفته المعظَّم سيدي علي حرازم بجمع كتاب
«جواهر المعاني» وبعض ما يتعلَّق بفضل هذا الكتاب المبارك، فقال:

(وبعدَ ذَا بنَحو شَهْرين أمَر

 

تِلميذَه الرِّضى عَليّاً الأبرّ

بجَمعه جَواهرَ المَعانِي

 

عن إذنِ سيدي بنِي عَدنانِ

صلَّى عليْهِ منزلَ القُرآن

 

والآل والصَّحب مَدى الأزمانِ

عَلَيْكم مَعاشِرَ الأحْباب

 

ما عِشتُمُ الدَّهرَ بذا الكتاب

عَن إذن طهَ جَمعُه وأمْرُه

 

وقدِّرِ الإمامَ حقَّ قَدرِه

ومَن يُطالِعْهُ بإنصافٍ يرى

 

خِلالَ الشيخ لَيْست في الورَى

ولَيْسَ في ذلك عِنْديَ شكٌّ

 

وخالِقي وَلَيْسَ فيهِ إفْكٌ)


(الأمر) اللَّفظي الدالّ على الطلب مع استعلاء الطالب، عكس الدعاء، والمراد بـ (علي) هذا
: سيّدنا علي حرازم المتقدِّم الذكر، و(مدى الأزمان) غاية الأزمان، (والدهر) يطلق على الأبد، وقيل: هو الزمان قلَّ أو كثر. قال الأزهري: الدهرُ يطلَقُ على الزَّمان وعلى الفصْلِ من فصول السنةِ وأقلّ من ذلك، ويقعُ على مدَّة الدُّنيا كلها اهـ(1).
وهذا المعنى الأخير أنسب بالمقام، و(الإفك) الكذب، من أفك يأفِكُ من باب ضرب إذا كذب
.
يقول
: وبعد ما استقرَّت بسيدنا في هذه الحضرة المحروسة الدار، واطمأنَّ به المنزلُ منها والقرار، ومضى نحو الشهرين من مَقْدَمِه وحلوله واستقراره أمَرَ عن إذن سيدِ الوجود تلميذَه الأخصّ الذي هو عيبةُ علومه(2) وخزانة أسراره سيدنا علي حرازم بجمْعِ كتاب «جوهر المعاني» ونظمه، لفرائد فوائده، وترتيب فصوله، وتهذيب مسائله، وتأسيس قواعده، وذلك بعد أن كان أمَرَ أولاً بتمزيق ما جمع منه من المسائل الجليلة السنية لأمرٍ اقتضتْه في ذلك الوقت أحوالُه الجلالية، التي هي نتائج هممه العلية، ودلائل صدقه مع الله تعالى في توجهاته الكمالية المرضية، فامتثلَ لأمره المُطاع بعد التحيُّر الكثير والإلحاح عليه بالمراجعة في ذلك من خاصَّة الأصحابِ والأتباع، فلم يقبلْ منهم لقوَّة الباعث الحامل له على ذلك في ذلك الوقت، إلا المحو والإتلاف والضياع، ولم يبقَ منه إلا تقاييدُ بيد البعض من أصحابه، فلما مَنَّ الله تعالى بصدور الإذن في جمعه انتفعَ بتلك التقاييد في كثير من فصوله وأبوابه.
وكان شروع مؤلفه في جمعه وترتيبه وتأليف مسائله وتبويبه بفاس أوائل شعبان الأبرك من العام قبله وسحاب الخير لها مطر ترصَدُ به إبانه وفصلُه
. وفرغ منه أواسط ذي القعدة الحرام من السنة الموالية لذلك العام، وذلك قيدَ حياةِ سيدنا قدَّس الله سرَّه ووالى عليه سحائبَ الرضوان، وبعد أن فرَغَ منه أحْضَرَه بين يَدَيْه وأجازَه في سائر ما فيه وكتبَ له بخطِّ يدِه المباركة أوَّله وآخره بذلك في مسجد الديوان، فجاءَ بحمدِ الله محفوفاً باليمن والإسعاد، منتشرَ الذكر، سنيَّ الفَخْر، عميمَ النفعِ في جميع الأصقاع والبلاد.
فلهذا يقول النَّاظمُ هنا مرشداً إخوانه إليه وحاضّاً لهم عليه مخاطباً إيَّاهم بما يقتضي التحنُّن والعطف والرفق في الخطاب جرياً منه في ذلك على سنن الحلماءِ الرحماء من أولي الألباب
: عليكم يا معاشرَ الإخوان وجماعة الأحباب، مدة حياتِكم، بالدوام على مطالعةِ هذا الكتاب، فإنه كفيلٌ بفضْلِ الملك الوهاب، للمثابر عليه من طريق المحبة الخالصة بالوصول إلى معرفة رَبِّ الأرباب، واستجلاء عرائس الحقائق ونفائس اللطائف والدقائق، والولوج إلى حصر حضراتها المُنيفة من كلِّ باب، فمَنْ جدَّّ وجد لا محالة في يومه ما لم يجدْه في أمسه، ومن قصَّر فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه، ويكفي الأريب من شرف هذا الكتاب العجيب صدور تأليفه عن إذن طه الحبيب، وشرف وكرم ومجد وعظم، مع ما اشتمل عليه من التنويه بضخامة شأن سيدنا وفخامة أمره وقدره إياه جهد استطاعته حق قدره، ومَنْ طالعه ونظَرَ فيما تضمَّنه بعين الإنصاف علم يقيناً ما فاق به سيدنا غيره من سنيِّ النعوت وكمال الأوصافِ، ولا يتطرَّق إلى هذا الرجم بالغيب، إلا لمن أُحرِم بركته وخيره من أهل الغفلة والتيه في مهامِهِ التردُّد والريب، وإقسام النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ في هذا المقام بالرب الخالق دليلٌ واضح لما خصَّ به في أحوال محبته من الصدق الفائق رَحِمَهُ اللهُ تعالى ونفعنا ببركاته، وما ذكرته في سبك هذه الأبيات هو مضمونُ ما اشتملَ عليه كتاب «الجامع» وكذلك كتاب «الجواهر» إلا النذر منه، فمما حقَّقناه عن الثقات الأثبات. ومما بلغنا في فضل هذا الكتاب عن سيدنا أن سيدَ الوجود نسَبَه إليه فقال فيه: كتابي هذا وأنا ألفته، وقد ظهر بحمد الله تعالى مصداقُ هذه المقالة الشريفة في حصول القبول التام له، وتطاير الركبان به وعموم النفع للخاصِّ والعام بعلومه السنية وأسراره المنيفة، مع أن مؤلفه كان مزجي البضاعة في العلوم الرسمية لابد له فيما يحتاج إليه في الصناعة التأليفية، فهو لا محالة من كراماته الشاهدة له بالخصوصية وهذا أدخلُ في الكرامة مما وَقَع لبعض العارفين الموصوفين بالأمية، من تأليف بعض مهرة العلماء في مآثرهم وأذواقهم الوهبية، ومن بركات هذا الكتاب الشائعة بين الأصحاب والإخوان، في سائر الأمصار والبلدان كثرةُ من دخَل في هذه الطريقة المحمدية بسبب مطالعته والنظر فيه، وهذا شيءٌ لا يكاد النظر يحصي ما اتفق منه ولا يستوفيه، وكنت كثيراً ما أسمعُ بعضَ أصحاب سيدنا وهو من العلماء الفضلاء، والسراة الأجلة النبلاء، يقول: قد شُوهد لهذا الكتاب في المكان الذي يكون فيه من الحفظ وسعة الأرزاق، وكثرة السعادة وتحسين الأخلاق، ما لا يجْحَدُه ويكابر فيه إلا غبيٌّ أو ذو شقاق ومن بركاته الظاهرة وكراماته الباهرة، ما ذَكَره مؤلفه من أن سيد الوجود أوصى سيدنا بعد ما أمره بجمعه، بأن قال له: تحفظ عليه لينتفع من بعدك من الأولياء به انتهى.
وقد ظهر مصداقُ ذلك والحمد لله، فانتفع به كثير من الأولياء، وسلك على ما تضمنه من الطرق عنده من الأصفياء، واستنبطوا منه عدة طرائق موصلة كلّها لمن سلكَ عليها من أهل هذه الطريقة الأحمدية إلى حضرة الخالق، ولو لم يكنْ إلا ما وَقَع لصاحب كتاب
«ميزاب الرحمة الربانية» لكان كافياً في هذا الذي ذكرناه للمشاهدة العيانية، فليتنبَّه لما أشرنا إليه في هذا المقام، وليعرفْ منه ما حام الشيخ حوله في قوله الثابت عنه: تتفرَّع عن هذه الطريق عدةُ كلّها كفيلةٌ من فضل الله تعالى بنيل المرام، ولا يذهبْ بك الوهمُ إلى ما تخيَّله في هذه المقالة بعضُ من لا علم عنده، وحسب من لم يطربْ للأغاريدِ أن يلزمَ حدَّه ولا يتجاذب مع ذي وجد صحيح وَجْده، وقد قال بعضُ أهل الطريق: مَنْ لم يعرف مصطلحَنا لا يجوزُ له الخوضُ في طريقتنا.
وبالجملة، فقد شوهد من تواتر البركات والخيرات لهذا الكتاب الجليل، ما لا يفي به قلم التعبير ولا يأتي عليه القيل، والله تعالى المستعان، وعليه سبحانه قصد السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل
.

 

 

***


(1) كذا في اللسان (دهر).
 (2)
العَيْبة: وعاء من خوص ونحوه ينقل فيه الزرع المحصود إلى الجَرين، وكذلك يطلق على الوعاء من آدم ونحوه يكون فيه المتاع، جمعه: عِيَبٌ وعِيابٌ. واستعيرت اللفظة هنا للعلوم.