بسم الله الرحمن الرحيم
[يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ]
      الحمد لله الذي جعل سلوكَ طريق أهل ولايته، مُنْيةَ المريدِ الصادق في إرادته، و التمسُّك بعهد الأئمة الدالِّين على سُبُل طاعته، بغيةَ المستفيدِ الباذل في مُناصحة مولاه جهْدَ استطاعته.
      نحمَدُه سبحانه و تعالى أن أشرقَ في قلب المريد من أنوارِ الإخلاص في بدايته ما تهيَّأ به لورود مقامات الاختصاص في نهايته. و نشكره جَلَّ و علا أنْ يسَّر للسالك من إقامة الأورادِ و الوظائف في حال مجاهدته، ما هداه به سُبُل حضرةِ قُربه و مشاهدته. و نشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، المنفرد في عظمة ملكه بعزَّة سناه و كبرياء جلالته، المنزَّه في علوِّ سلطانه عن كلِّ ما لا يليق بكمال قدسه و سموِّ مَجَادته. و نشهدُ أن سيدنا و مولانا محمداً عبده و رسوله إمام حضرة جبروته، الذي جعل مبايعته عينَ مبايعته، و مظهرَ أسرارِ مُلْكه و َمَلكوته، الذي أدرج طاعته في طاعته و على آلِه الأطهارِ المخصوصين من الشرف الأتمِّ بغاية غايته، و على صحابتِه الأبرار المتبؤّئين بحسن صحبته، و كمالِ التبليغ عنه أعلى الدرجاتِ من مقاماتِ وراثته، صلاةً و سلاماً يندرج بسببهما في سلكٍ من بشر من الله تعالى بالمحبة و الغفران من أهل متابعته، و ننالُ ببركتهما أكبرَ الرضوان في دار جزائه و كرامته.
     (أما بعد) فإن أولى ما تنافَسَ فيه الأكْياسُ، و أجلّ ما أُنْفِقتُ فيه بضائعُ الأنفاس، و أفضلُ ما صرف إليه اللبيبُ عنانَ اهتمامه، و جعله الأريبُ مطمحَ عينِ قلبه في لياليه و أيامه، سلوك طريق أهل الله الأولياء، و التمسك بعهد خاصته الأصفياء، و نقل الأقدام بالمستطاع من الأعمال على أثرهم، و الإستضاءة في عموم الأوقات و الأحوال بلوامع أنوارهم. إذ بذلك يتحلى العبد بملابس العرفان، و به يرتقي أعلى الدرجات من مقام الإحسان. و به يتهيأ لقبول الإمدادات القدسية، و يستعد لتلقي واردات الأنوار العلوية. و كيف لا، و هم نواب الرسول القائمون عنه في الأمة بكمال الرعاية و حسن السيرة، المخصصون بتحقيق قدم المتابعة له في مقام الدعوة إلى الله على بصيرة.
     و إن ممن أحله الله تعالى من هذه المقامات أعالي ذراها، و حلاه من هذه الكرامات بواضح سناها شيخنا و أستاذنا العارف الرباني، و الوارث المحقق الفرداني، القطب الجامع الصمداني، أبا العباس مولانا أحمد ابن مولانا محمد التجاني، و أرضاه، و متعنا و سائر الأحبة برضاه.
     فلقد صار رضي الله عنه في ذلك كله العلم المفرد بين الأكابر، و استحق النداء بالرفع في سائر الحضرات و المظاهر. و انتهت إليه دون العصابة رياسة هذا الشأن، و خفقت عليه أمام الجماعة ألوية النصر في هذا الميدان. و أظهر من كنوز الشريعة المطهرة إبريزها الخالص، و أبرز من بحار الحقيقة خصائص الفرائد و فرائد الخصائص. و جاء في أساليب الدلالة على الله تعالى بما لم يسبق إليه، و أتى في مسالك التربية و الترقية بما لم يعرّج أحد عليه، لبلوغه أقصى درجات الكمال، في الجمع بين العلم و الحال و الهمة و المقال.
     فأسست طريقته على تقوى من الله و رضوان، و شيدت من العالمين الظاهر و الباطن على أقوم القواعد و أقوى الأركان، و أيدت من أنوار الهداية و أسرار العناية بأوضح دليل و برهان، فعم النفع بها في سائر الأقطار و شاسع الأصقاع و البلدان. و اختص ورده المحمدي اللفظ و الترتيب، الأحمدي السر و التركيب، بتحقيق السير في مقامات الدين الثلاثة و سائر منازلها على الأسلوب الغريب، و المنهج العجيب، كما يتبينه المنصف الذي كحّلت عينه بإثمد الأنوار الإيمانية، بالوقوف عليه مبسوطاً في كتاب « ميزاب الرحمة الربانية »، و يتحقق السالك المحافظ على هذا العهد في السر و العلانية، من طريق الذوق التام بالمشاهدة العيانية. فلا جرم أن الله تعالى أحيا به مراسم السنة بعد اندثارها، و أوضح معالم الطريقة بعد خفاء آثارها، و أطلع به شمس الحقيقة بعد أفولها و استتارها.
     و لله درّ العلامة المحقّق شيخ مشايخ العلوم النقليات و العقليات، المبرّز على زمانه في تحقيق الجزئيات منها و الكليات، أبي زيد سيدي عبد الرحمن بن أحمد الشنجيطي المتوفى بفاس العليا في شوال سنة أربع و عشرين و مائتين و ألف (1224 هـ)، حيث قال فيما نسجه في مدح سيدنا على أبدع منوال و أعجب مثال:
أحيـا طريقـة أهـل الله فهـي بـه شيخ المشايخ من في طيّ بردته من داره جنة الفردوس وهْوَ بِها يفيض من سلسبيل الذكر كوثرها أوراده عن رسول الله قد رويت فانقـل فديـتك في آثاره قدماً واحرص بأن تنتمي يوماً لجانبه |
مؤلّف شـملها والكـسر مجبور جيب على النور والأسـرا مزرور رضوان خـازنها أذكارها الحور فاشرب مفـجرها فأنت مأجـور كـذاك أفـعالـه والـسـرّ مـأثور فـإن فـعـلت فـذاك الـنقـل مـدخـور فـحـظ مـن ينـتمـي إليـه مـوفـور |
     و قد كنت، حين قادني رائد العناية الأزلية الذي ليس إلا عليه المدار، و جذبني جاذب الدائرة الفضلية التي هي من وراء دوائر العقول و الأفكار، فألهمت فضلاً من الله تعالى الإنتماء لجانب هذا الشيخ العظيم، و الإلتجاء إلى حمى طريقته الشريفة و حزبه الكريم، بإلقاء القياد له و سلب الإرادة إليه على طريق الإستسلام و التحكيم، لقيت من أصحابه الذين أخذوا عنه علومه و أسراره، و اقتبسوا منه بحسن الصحبة و كمال المتابعة معارفه و أنواره، و لازموه إلى أن فارقوه و هو عنهم راض جماعة وافرة، فانتفعت بحمد الله على أيديهم بما أرجو عود بركته عليّ و على أولادي و سائر الأحبة و الإخوان في الدنيا و الآخرة.
     فتلقيت ممن تأهل منهم للتلقين ورده المحمدي الشريف، و أخذت عنهم عهده المصطفوي المنيف. و رويت عنهم من طريق الإجازة العامة جميع ما عليه كتاب « جواهر المعاني » من الأوراد و الأذكار، و تلقيت منهم سماعاً شرح الكثير من مسائله الجليلة القدر و فوائده العظيمة المقدار. و ذاكرتهم بطريق الإستفادة منهم و الأخذ عنهم في كثير مما لم يشتمل عليه هذا الكتاب، مما يوجد زائداً على ما فيه بغيره من المؤلفات و التقاييد التي بأيدي الأصحاب. فاجتمع عندي بحمد الله من ذلك نبذة كافية و جملة شافية، مما يحتاج إليه المسترشد المستفيد و لا يستغني عن مراجعته المرشد المفيد.
     فكنت أهمّ كثيراً باستحفاظي ذلك رسالة تشمل عليه، ليعم النفع به لمن عسى أن يحتاج من الإخوان و الأولاد إليه. فيصدّني عن الخوض في تلك المسالك، علمي بأنني بكل وجه و بكل اعتبار لست أهلاً لذلك. و يردني عن اقتحام مضايق ذلك الأمر الخطير، تحقّقي ممّا عليه نفسي الأمارة و عقلي الحسير، من الإتصاف بغاية القصور و التقصير.
     و بقيت أتردّد في ذلك منذ أعوام مضين من عمري و أزمان، إلى أن اشتعل منّي الفودان، و ارتحل عني زمان الشبيبة و بان. ثم نظرت فإذا هاتيك الشموس الواضحة الإشراق، و البدور الكوامل من تلك العصابة قد أفلت من هذه الآفاق. و اقشعرّت البلاد لفقد أنوارهم أي اقشعرار، و فوح نبتها اليانع بعد الإخضرار. و اتّخذ جلّ من خلفهم من الأتباع هذا الأمر وراءهم ظهريا، حتّى كاد أن يصير حديثه فيما بينهم نسياً منسيا. بيد أنّي رأيت جماعة من خاصة الفضلاء و أفراد الأذكياء النبلاء، لا زالوا يساءلون عنه بغاية الجدّ و الإجتهاد، و ينقّبون عن جهينة خبره في سائر الأغوار و الأنجاد. فعلمت أنّه لا بدّ لكلّ مغفول عنه أن ينتبه إليه و يطلب، و لكلّ مرغوب عنه أن يرغب فيه و يخطب. فانبعث منّي بسبب ذلك على جمع ما كنت أتردّد في جمعه الباعث القوي، و انقدح في باطني من الإقدام عليه زند وري.
     فبينا أنا أستخير الله في الشروع فيه المرّة بعد المرّة و أستقدره، و أفكّر في أيّ قالب من القوالب التأليفية أفرغه، و بأيّ شكل من الأشكال التصنيفية أخطّه وأصدره، إذ ورد علينا في غفلة من موانع الحوادث و صوارف صروف الدّهر، ورود الفرح و لا فرح الظمآن فاجأه القطر، بعض المحبين ممّن جاور بالحرمين الشريفين عدّة من السنين، بهذه المنظومة العظيمة القدر الجليلة السنا و الفخر، المسماة « منية المريد » ليوافق اسمها مسمّاه بتوفيق الرّبّ المجيد، التي هي من إنشاء أخينا في الله سبحانه و صفيّنا و حبيبنا الأخصّ و وليّنا، أعجوبة الدّهر في كرم الأخلاق و لطف الشمائل و غرّة العصر، الجامع لشتات الفواضل و الفضائل، الفقيه الأديب العلامة، المشارك الألمعي الأريب أبي العباس سيدي أحمد المدعو التجاني ابن العلامة سيدي بابا الشنجيطي العلوي....
     غير أن بعض السادات الأجلاء، و السرّاة الأخلاّء، ممّن يتعيّن عليّ القيام بحقوقه الأكيدة، لما هو عليه من حسن المؤاخاة في الله تعالى و السيرة الحميدة، ألحّ عليّ مرات عديدة في وضع تعليق عليها يكون كالتتّمات و التكميلات لكلماتها الجامعة المفيدة، و التحصيلات لجملها النافعة و أقوالها الراجحة السديدة.
     فحداني ذلك، مع ما قصدته في أداء هذا الحق الأكيد من التعرّض لنفحات المولى الغنيّ الحميد، و التكثير لسواد هذا العصابة، و الإستجلاب للدعوات الصالحة المستجابة، و الإكتساب للمودّة الصادقة من كلّ أخ صالح ينظر في هذه العجالة و هذه الصّبابة، على أن لبَّيت بعد الإستخارة دعوته، و أسعفت بعد الإستعصام بحول الله و قوّته رغبته و طلبته. و شرعت فيما التمسه منّي من التقييد على أبيات هذه القصيدة المباركة بقدر الإستطاعة، و إن كنت في العلم و العمل و التقوى مزجى البضاعة، على أنّني أعترف كلّ الإعتراف بأن ليس لي فيه إلا أعمال البراعة، و خدمت به الأعتاب الختمية و الحضرة الأحمدية الكتمية:
عسى عناية لطـف الله تلحقني |
بالسابقيـن فقد عوّقت مـن كسلي |
و رجاء أن يغمرني من إمداداتها الوهبية، و يشملني من بركات أسرارها الغيبية، ما يكون سبباً لتطهير سريرتي و تنوير بصيرتي و غفران ذنوبي و ستر عيوبي، و موجباً بمحض كرم الله تعالى لإلحاقي بدرجة الخاصة العليا من أهل هذه الطريقة الأحمدية، فأفوز من فضل الله تعالى بالحياة الأبدية، و السعادة الدائمة السرمدية، و المعيشة الراضية الهنية.
     و سمّيته [بغية المستفيد لشرح منية المريد] و من الله تعالى أسأل التوفيق الجميل، و الإعانة على الإتمام و التكميل، و هو حسبي و نعم الوكيل....
     و الناس، باعتبار النظر في هذا التقييد و بحسب الإنتفاع به و عدمه، أربعة لا خامس لها دون تفنيد:
- إما محبٌّ صادق وجده الحال قد دخل في الطريق،
- و إما محب أيضاً قد أخذ بقسط من التصديق لكنه لم يحظ بعد بالدخول في الطريق،
- و إما حال عن كلتا الحالتين تتجاذبه أيدي القبضتين،
- و إما مبغض و العياذ بالله تعالى قد انهار به جرف هواه.
     وقد حبّب إلي أن أقدم بين يدي الشروع في الكلام على هذه المنظومة المفيدة الجامعة، مقدمة كافية في بابها إن شاء الله تعالى نافعة، و أن أرتب الكلام فيها في سبعة مطالب تشتمل على ما لا بد منه في طريق الإرادة لكل سائل و طالب.
محبٌّ صادق
محبٌّ صادق وجده الحال قد دخل في الطريق، و تمسّك في السرّ و العلانية بحبلها الوثيق، حتّى خامر قلبه نور اليقين و التصديق، فانقدح له في باطنه من علوم الطريق و أسرارها بعض أذواق التحقيق.
فحظ هذا من الانتفاع بمراجعته ما يفيض في قلبه عند مطالعته من شواهد الوجدان الحالية، و دلائل واردات الأنوار العرفانية، فيكون دليله على صحّة ما ذكرناه له المشاهدة و العيان، وما بعد العيان بيان.
×
محب أخذ بقسط من التصديق
محب أيضاً قد أخذ بقسط من التصديق، لكنه لم يحظ بعد بالدخول في الطريق، والانخراط في سلك هذا الفريق.
وهذا يرجى له ببركة ما معه من التسليم أن يرقى بأدنى مماسة لمسائله إلى درجة أهل الذوق السليم فيلتحق عن قريب بأول فريق ويسقى من مختوم هذا الرحيق.
×
حال عن كلتا الحالتين
حال عن كلتا الحالتين تتجاذبه أيدي القبضتين.
وهذا يرجى له أيضاً إن ساعدته الأقدار الإلهية ووافقته المشيئة الربّانية فتحلّى بحلية الأشراف، واتّصف بأكمل الأوصاف، ونظر فيما اشتمل عليه بعين الإنصاف، أن يشرف على مدارك التحقيق أيّ إشراف، ويقف من عين الحق على ما يتجلّى به إن شاء الله تعالى عن شبه الاعتساف، وعند ذلك يميل الى الشوق ميلا ويخيم بحي ليلى، والله ولي التوفيق والهداية، ولا سبب في الحقيقة إلا العناية.
×
مبغض
مبغض و العياذ بالله تعالى قد انهار به جرف هواه ، في نار جهنّم القطيعة و بئس مثواه. و هذا ليس ممّن يواجه بهذا الخطاب، و لا ممّن يرفع له عن وجوه مخدّراته النقاب، لأنه كما قال الشيخ العارف بالله تعالى أبو سليمان سيدي داود الباخلي رضي الله عنه في شرحه لـ "حزب البحر" الذي سمّاه "اللطيفة المرضيّة في شرح دعاء الشاذلية": "لا ينفع فيه البيان، و لا ينجع فيما قام بقلبه من الإعراض عن الله تعالى واضح البرهان، لأنّه صرفه الهوى عن اتباع سبيل الهدى".
ثم قال، أعني سيدي داود، : "و موجب بغضه:
- إمّا لأنّه محبّ للدّنيا مشغول بها عن الله تعالى فهو أبداً يعادي الآخرة و أهلها بطبع نفسه، ويعادي من أجل ذلك أولياء الله تعالى عداوة باطنة زرعها الشيطان في قلبه،
- أو مترشّح بظاهر طريق رأى أثر النعمتين الظاهرة والباطنة فثار من قلبه ثائر الحسد لما جبلت الطباع عليه من حسد من كان مماثلاً أو مشاركاً في صفة، كما قال سفيان بن عيينة: "مكتوب في بعض الكتب: "عدوك من عمل بعملك""،
- أو منتسب إلى الفقه وقف مع الظاهر، و جمد عن النظر في أرواح المعاني و لباب العلوم يسمع أسرار العلوم و لا يجدها تنطبق عليها قوالب الألفاظ و لا بعض الظواهر، بمقتضى حظّه من الفهم فينقبض عن قبولها،
- أو متصلّح وقف مع صور ظواهر العبادات البدنية دون أسرارها و فقهها، و لم تفتح له أبواب المعارف و لا عرف العلوم القلبية و لا أعمال القلوب و لا ذاق شيئاً منها. بل يظن أن الله تعالى لا يعبد إلا بحركة الجسد و اللسان فقط، فتراه إذا سمع العلوم الروحانية و الأعمال القلبية و الأسرار اللدنية وقف قلبه و كعَّ(1) عنها و قال: لعل هذا غير دين الله عز و جل، و عادى من ظهرت على يديه".
و قد نقله في "الجيش" عن الطوائف غير معز للشيخ داود مع تصرّف في بعضه، فانظره فيه إن شئت.
(1) كعَّ عن الأمر : هابه وجبن عنه. ×