ذكر الهيللة

قال (الناظم) رَحِمَهُ اللهُ تعالى متمماً الكلام في الأذكار اللازمة للطريق، وهي الورد والوظيفة وذكر الهيللة بعد صلاة العصر من يوم الجمعة لا غير، والأول – أي الورد –لازمٌ لذاته بمعنى أنه لا يمكن الدخول في الطريق إلا به، والأخيران لازمان له بمعنى أنهما إن ما يلزمان بالتبعية له، أعني بعد الدخول في الطريق، فلذا لما ذكر النَّاظم رَحِمَهُ اللهُتعالى ما يتعلق بالورد و الوظيفة أتبعه بذكْرِ الهيللة بعد عصر يوم الجمعة فقال:
 

حضرة يوم الجمعة

 

أي هذا مبحثُ يوم الجمعة ؛ وعبَّر بالحضرة لأن المطلوبَ في ذكرِ الهيللة بعد عصر يوم الجمعة أن يكونَ في جماعةٍ إلا لعذر، أو حيث لم يكنْ إخوانٌ في البلد الذي هو فيه حسبما سيظهرُ من كلام النَّاظم رحمه الله تعالى.

قال :

بَعدَ صَلاةِ عَصـرِ يَـوم الجُمعـة

 

يَلزم مَنْ يَكـونُ ذا الذكرُ مَعَـهْ

هنيللةٌ لمَغرِب ولا تعدْ

 

وشَرطُ الاجتِمـاع فِيها مُعتَمـدْ

لِمَنْ لـهُ أخّ وإلاَّ فَـعَلاَ

 

مُنْفرِداً وَمَـن يَكُـنْ قَـد شُغِلا

جازَ لهُ التَّركُ إلى قَبلِ الغُروبْ

 

بِساعةٍ ونِصفِها يأتي الوُجوب

ومَن يَشَا الْتَزم ذِكراً عَـددا

 

ألْفـاً فَصاعِـداً بِلا حَصْر بَـدَا

وفِـعلُـها كحـضْـرة الخَلوتـي

 

تَحسينُه يُنمـى إلـى الثُّبـوتِ

 

 

أشار بهذه الأبيات إلى ما ثبتَ عن سيدنا وهو في ''جواهر المعاني'' وغيره من أن الآخذَ لهذا الورد الشريف يلزمه لزوماً محتماً أن يذكر بعد صلاة العصر من يوم الجمعة الكلمة الشريفة «لا إله إلاَّ الله» وينتهي وقتُها إلى الغروب. ولا لها عددٌ ينتهي إليه الذاكر، كما قال: (ولا تعد).
 
وشرطُ هذا الذكر الإجتماعُ، يعني والجهرَ والتحليقَ إن كان للذاكر إخوان في البلاد، وإلا فيذكرُ وحده الهيللة من صلاة العصر إلى الغروب من غير عدد. وإن كانَ له شغلٌ أخَّر إلى قبل الغروب بنحو ساعةٍ ونصف ثم يذكر إلى الغروب، وإن شاء جعلَ عدداً معلوماً يلتزمه لنفسه ألفاً فما فوق من غير حصرٍ، يعني في الزائد على الألف، على ما قاله النَّاظم رحمه الله تعالى واعتمد فيه، والله أعلم.
قول صاحب ''الجامع'' في تعيين هذا العدد خمسَ عشرة مائة أو أكثر.وقد روي عن بعض أركان الطريق ألفاً وستمائة، وعن بعضهم وهو الذي اعتمدَه صاحب ''الجيش الكبير'' ألفاً ومائتان. وعن السيد الجليل الماجد الأصيل مولانا محمد بن أبي النصر قدَّس الله سرَّه ألف فقط.

وكلام النَّاظم رحمه الله شاملٌ لهذه الروايات كلها، إلا أن الزيادة على ألف وستمائة لم تحفظ عن أحد ولا بلغنا أن عليها عملَ أحد.

وهذا كلُّه إنما هو في ذكر الهيللة فقط على الكيفية التي في الوظيفة. وفي ''جواهر المعاني'' ما هو صريحٌ في أن من الكيفيات في ذكر الهيللة كونها على قاعدة الطريقة الخلوتية. بل فيه ما يؤخذُ منه أن هذه الكيفية، أعني الجارية على قاعدة الطريقة الخلوتية، مقدمةً على غيرها حيث اصطلح عليها أهلُ بلد. فإنه لما قال في هذه الحضرة إنها تكون على قاعدة الطريقة الخلوتية، قال: «وإلا فبحسب كلّ ما اصطلحت عليه البلد التي هو فيه»، هذا نصُّه. وهو مشعرٌ بتقديم الكيفية المذكورة لدى من اصطلح عليها، ولهذا قال الناظم رحمه الله: (تحسينُه ينهى إلى الثبوت). وكأنه رحمه الله تعالى لم يحملْ ما في ''جواهر المعاني'' على ما يفيد تقديم الكيفية المذكورة وتحسينها لكونه غير صريحٍ في ذلك، ولأن الأصل هو ذكر الهيللة سرداً، كما عليه العمل في الوظيفة. والكيفيةُ المذكورة إنما هي لمن اصطلح عليها وعرفَ طريقها التي عليه أهلها. وإلا فالعملُ على السرد أولى، لما يؤدي إليه العملُ مع عدم الإتقان لطريقته من الحركات المنافية لحال الذاكرين الخاشعين. ولا يوجد ما ذكر من المعرفة والإتقان إلا في أهل الحواضر ومن في معناهم، وأما غيرهم من أهل الصحاري ومن في معناهم من أهل البادية فتجنُّب العملِ عن تلك الطريقة أولى في حقهم، بل الحقُّ منْعُ ذلك إلا على أهلِ الحواضر. نعم دعوى تقديم الكيفية التي عليها أهل فاس، بل وأحسنيتها مسلمة عند كلِّ ذي ذوقٍ سليم بلا شك حسبما يشهد به الوجدان الذي هو أقوى من العيان.
 

وإذا لمْ تَرَ الهِـلالَ فَسَلِّـم

 

لأُناسٍ رَأَوْهُ بالأبْصارِ

وإذا لم تَذُقْ ما ذاقَتِ الناسُ فـي الهـوى

 

فبالله يا خالـي المشـك لا تعنفنا(1)

 

واعلم أن الذكر على الكيفية المذكورة قد تواصَلَ عليه عملُ المشايخ الكبار، في سائر المدن والأمصار، ووَقَع الإجماع عليه بعد الإختلاف الكثير، فجازَ اليوم عند من يعتد به من علماء الأمصار من غير خلف ولا نكير.
وقد ألَّف في جوازِه غيرُ واحد من العلماء الأعلام، منهم عالم عصرِه وحافظ قطره الشيخ الإمام سيدي أبو العباس أحمد بن الشيخ الكبير والقطب الشهير سيدي أبي المحاسن الفاسي شارح ''رائية الشريشي''، رحم الله جميعهم ورضي عنهم. وقد أفاد في تأليفه في ذلك وأجاد وفصَّل القول فيه تفصيلاً شافياً أفصحَ به عن الحقيقة وبيَّن المراد.
وكذلك ألَّف فيه أيضاً بعده بعض السادات الفاسيين تأليفاً حسناً سلك فيه في تحرير الأدلَّة وبيان وجوهها شريعة وطريقة مسلكاً واضحاً مستحسناً، وقد منَّ الله تعالى بمطالعتهما معاً.
ورأيت على ظاهر الثاني، وهو بخطِّ مؤلفه، عدة خطوط لعلماء الوقت كلّهم أجازوه وأقروه وقالوا بمضمنه. ومن جملة ما رأيت إجازته لهم بخطِّ يدِ خاتمة المحققين، وراية العلماء المتفننين المدققين الشيخ أبي العباس الهلال العمري
. وفي ''شرح الحصن'' للشيخ الإمام المتفنن المتقي سيدي محمد بن شيخ الإسلام سيدي أبي محمد عبد القادر الفاسي ما يوافق ما اشتملَ عليه المؤلفان المذكوران، فليراجعْه جميعُ من أراده ليزدادَ تبصرةً إن كان مسلماً، أو يتحقّق الأمر على ما هو عليه، عساه أن يكون سبباً لتسليمه ورجوعه إن كان منكراً أو جاهلاً متعلماً. وفي أمر سيدنا الشيخ   وفعله بحضرته كفاية لنا في جوازه وثبوت طريقته.
ومما يجب أن يعلم منها أن سيدنا الشيخ كان يحبُّ الوقوف عند الحدود المحدودة فيه عند السادات الخلوتية:
من الإفتتاح بشيءٍ من القرآن
ومن ذلك أن لا يشغلَ عن فريضةٍ حتى يخرج وقتها المختار،
ومن ذلك اتِّحاد الجنس،
ومن ذلك عدمُ التمطيط في الذكر،
ومن ذلك عدم رفع الأقدام من الأرض وركض الأرض به حالَ القيام في الذكر،
وأما الحدثُ سناً فإنه مظنةٌ للفتنة،
ومن ذلك أيضاً حضورُ النساء بالقرب من حِلَقِ الذكر.
 

وفي هذا القدر مما قيدناه على كلام الناظم هنا كفاية عميمة إن شاء الله تعالى.

 

ثم تمَّم النَّاظم الكلام فيما يتعلَّق بهذه الوظيفة، أعني وظيفة الجمعة التي هي آخر الأذكار اللازمة في الطريق، فقال:

 

ومَن يَفتْه وقتُها لا يَلزمُـه

 

قَضاؤُها بِـلا خِلافٍ أعلـمه

وتَركُها يُفيت خَيراً جـمّا

 

إلاّ لعُذرٍ عارضٍ ألنا

يكفيكَ في الفَضلِ حُضورُ المُصطفـى

 

صلّى عَليهِ ربُّنا وشَـرَّفا

 

أراد أنه لا قضاء عندنا في هذا الذكر، أعني ذكر الهيللة بعد عصر يوم الجمعة، إذا فاتَ وقتُه، وهو كما عرفته من صلاة العصر يومَ الجمعة إلى غروب الشمس، ثم إن كان فاتَه لعذر عرضَ له في الوقت فلا بأسَ من أن يكتب له أجرُه بفضل الله تعالى:«إنَّما الأعْمالُ بالنِّياتِ. ونيَّةُ المؤْمِن خَيْرٌ مِنْ عَمَلِه»(2) وإن فوَّته بغير عذرٍ فقد فوَّتَ على نفسِه خيراً كثيراً، وضيَّع نفسَه في فضل كثير، ولو لم يكن إلا الإستمداد من الحضرة المصطفوية وشرف وكرم، لأنه ثبتَ عن سيدنا الشيخ أن من فضائل هذه الحضرة حضور المصطفى فيها، وهو الذي عقد في هذه الأبيات الثلاث هو غالب لفظه في ''الجامع''، فإياه اعتمدَ في ذكره الحضورَ المذكور، إذ لم يذكرْه في ''جواهر المعاني''، ولعلَّ مؤلف ''الجامع'' سمعه من الشيخ بعد وفاة مؤلف ''الجواهر'' والله أعلم. وعلى كل حالٍ فهو مما لا يقولُه أحدٌ من عنديته، وخصوصاً من كان مثل صاحب ''الجامع'' من خاصة أهل الخير، والصلاح، رحمه الله تعالى ونفعنا ببركاته آمين.
( دقيقة.)
 

(1) كذا ورد  البيت في الأصل، وفيه خلل ظاهر
(2)
رواه البخاري في (بدء الوحي:1)، وفي (النكاح: 5)، وفي (العتق: 6)، وفي (الحيل: 1)، ومسلم في (الإمارة:155)، وأبو داود في (الطلاق: 11)، والترمذي في (فضائل الجهاد: 16) والنسائي في (الطهارة: 59).

***



الافتتاح بشيءٍ من القرآن

 

 
 

من الإفتتاح بشيءٍ من القرآن كفاتحة الكتاب والختم بشيءٍ منه أيضاً، ولو كآخر سورة اليقطين(1). وينبغي أن يقصد المفتتح لإخوانه، في قراءته ذلك الإفتتاح بالقرآن العظيم والإختتام به كذلك.



(1) آخـر سورة اليقطين هو قـوله تعالى[سُبْحَٰـنَرَبِّكَرَبِّاُلْعِزَّةِعَمَّايَصِفُونَ (180) وَسَلَٰمٌعَلَىاُلْمُرْسَلِينَ(181) وَاُلْحَمْدُلِلَّهِرَبِّالْعَٰلَمِينَ (182) [الصافات:180-182][
×

لا يشغلَ عن فريضةٍ حتى يخرج وقتها المختار


  من ذلك أن لا يشغلَ عن فريضةٍ حتى يخرج وقتها المختار، فإن ذلك والعياذ بالله تعالى من عمل أهل الغرور من المتلاعبين المستهزئين، ومآلُهم بلا شك إلى الخسرانِ المبين.
×

اتِّحاد الجنس


 

ومن ذلك اتِّحاد الجنس، فلا يختلطُ أهل اللغات والنغمات العجمية مع أهل اللغات والنغمات العربية مثلاً، بل يجبُ أن يكون الذاكرون جنساً واحداً حتى لا يقع تخليط وتشويش يشغلُ عن الحضور والاستغراق المطلوب في الذكر. فإذا ألجأ الحالُ واحداً من العجم مثلاً إلى أن يذكر مع العرب أو العكس، فإنه يجبُ عليه أن يستعمل ما يقدِرُ عليه من المتابعة لهم والموافقة بحركته وصوته لحركاتهم وأصواتهم بما أمكن، وهو أفضل له من تَرْكِ الذكر جملةً. وكذا يفعلُ من كان من جنس بعض الفقراء ممن ليست طريقته في الذكر طريقة الجماعة التي أراد الدخول معهم بأن يتابعهم على طريقتهم بما أمكن.

قال في ''البحر المورود'': «أخذ علينا العهود أن نكون هينين لينين في إخواننا المسلمين ما لم يدْعُونا إلى مذموم شرعاً»، وفي الحديث الوارد في تسويةِ الصوفِ: «ولينُوا في أيدي إخْوانِكُم(1)».

واعلم يا أخي أن من جملة اللِّين أنك إذا دخلتَ على جماعة يذكرون الله تعالى على طريقة المغاربة أو العجم وغيرهم أن تذكر كأحدهم في النغمة والصوت، ولا تخالفهم فتشوش عليهم، ولا تسكتْ فيفوتَكَ أجرُ الذكر، وهذا في حق فقراء لم يكن شيخُهم يمنعُهم من صحبة من ليس على طريقتهم، وإلا فيجب على مريده الوقوفُ عند إشارته وعدم التعدِّي لما أمره به، علماً بأنه لم يأمره بذلك إلا لمصلحة لا علة أخرى، لأنهم المبرَّؤون من دسائس النفس والهوى y.

وقدبلغنا عن بعض الأصحاب أنه دخَلَ مع جماعة من فقراء الوقت في حلقةِ ذكْرٍ، فبمجرَّد دخوله تثاءَبَ فانقضَّ حنَكُه الأعلى على الأسفل فأعيى الناس علاجُه، فكان ذلك سببَ موته، أعاذَنا الله من المخالفة بمنِّه ورضاه آمين.






(1) رواه أبو داود (الصلاة : 93)، وأحمد : 2/98 - 5/262
×

عدمُ التمطيط في الذكر


 

من ذلك عدمُ التمطيط في الذكر،  بحيث يخرجُ فيه حدِّ الغناء المنافي للخشوع، أو إلى اللَّحن الذي لا يسوغ.وقد كان أصحابُ سيدنا يذكرون على الكيفية المذكورة بالقرب منه فيسمِعَهم مرةً فعلوا شيئاً من ذلك فزَجَرهم ونادى بأعلى صوته: أي شيء في هذا؟ أي شيء في هذا؟ «لا إلَه إلاَّ الله، لا إلَه إلاَّ الله».

(تنبيه) كثيراً ما يقعُ من الفقراء مدُّ هاء «لا إلَه إلاَّ الله» أعني الهاء من إلَه، وكثيراً ما ينكر عليهم في ذلك. وقد سُئل عن ذلك بعض العلماء فأجابَ بما حاصلُه: أن مدة هذه الهاء في تلاوة القرآن كقوله تعالى: ]فَاُعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَٰهَ إِلاَّ اُللَّهُ[(محمَّد:الآية 19)ونحوه لا يسوغ، لأن القراءة سنةٌ متَّبعة. وأما في غير التلاوة فالأمرُ واسع في ذلك، لأن له وجوهاً في العربية تقتضيه: منها أن «لا» تعمل عمل «إن» و«إلَه»: اسمها فهو منصوب منوَّن، فيجوز إشباعُ هائهِ وصلاً، إعطاءً للوصل ما للوقف:

وربما أُعْطي لفْظُ الوَصْلِ مـا

 

للوَقْفِ نَثْراً وَفَشا مُنْتظما

 

انظر شروح ''الألفية''(1):

وذكر في الجواب وجوهاً أخرى لا نطيلُ بها، ثم قال: «والذاكر فيما وافق لغة العرب في وجه ولو على وجه القلَّة والندور عند ذاكرٍ أو مأجور، لا يعترض عليه فيما أتى به لأن العرب كلَّهم فصحاء بلغاء، وانظر إلى قوله : «ليس من امبرامصيام في امسفر»(2) وهو منزَّه عن اللحن» اهـ باختصار.

  




(1) البيت في ألفية ابن مالك برقم (899)، وقال ابن عقيل في شرحه : «قد يُعطى الوصل حكم الوقف، وذلك كثير في النظم، قليل في النثر. ومنه في النثر قوله تعالى:[لَم ْيَتَسَنَّهْ ۖ وَاُنْظُرْ](البقرة: 259)،ومن النظم قوله:مـثـل الـحـريـقِ وافـق الـقـصـَبَّــا، فضعف  الباء وهي موصولة بحرف الإطلاق، وهو الألف.وانظر حاشية الخضري على ابن عقيل على ألفية ابن مالك:278/2.

(2) قال النبي r على لغة أهل اليمن الذين يستعملون (ام) بدل (ال) التعريف، فيصبح الحديث «ليس من البر الصيام في السفر».

ورواه البخاري في (الصوم:36)، ومسلم في (الصيام: 92)،وأبو داود في (الصوم:43)، والترمذي في (الصوم:18).
×

عدم رفع الأقدام من الأرض وركض الأرض به حالَ القيام في الذكر


  

من ذلك لما كان الشيخ يحبُّ الوقوفَ عنده(1) من حدود الذكر عدم رفع الأقدام من الأرض وركض الأرض به حالَ القيام في الذكر، وهي طريق السادات الخلوتيين خلافاً لمن خالفهم في ذلك.

وقد كان سيدنا لا يقبلُه، يعني رفع الأقدام وركض الأرض بها، ويشدِّد الزجرَ لمن صدرَ منه. تابعه على ذلك جميعُ أصحابه، فهو عندهم من الأمر الشنيع في طريقتنا ومثله التصفيق، يعني في الذمِّ والشناعة في طريقتنا. ومن ذلك تفعُّل شيء من الحركات التي تسقطُ العمامة أو الرداء أو نحو ذلك، فإن وقعَ شىءٌ من ذلك عن غلبة وجدٍ فلا بأس به حينئذٍ، ومن التحرُّز من زعقة وغيرها أثناء الذكر إلا عن غلبة وجدٍ أيضاً.

وقد نقل عن السري السقطي أنه قال: «شرط الواجدِ في زعقته أن يبلغَ إلى حدِّ لو ضربَ وجهُه بالسيفِ لا يشعرُ به». قال في ''عوارف المعارف'': «وقد لا يبلغ وجد هذه الرتبة من الغيبة. ولكن تكون زعقتُه كالنفس بنوع إرادة ممزوجة بالاضطرار».

وأما القيام أثناءَ هذه الحضرة فلا بأس به ولا إنكارَ على فاعله، سواء كان باختيار أم لا. وقد سُئل عنه الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى، فأجاب بقوله: لا إنكارَ عليه في ذلك».

ثم قال في جوابه«: «وقد سئل هذا السؤال شيخ الإسلام البلقيني، فأجاب بمثل ذلك وزاد أن صاحب الحال مغلوبٌ، والمنكِرُ محرومٌ، ما ذاق لذة التواجُدِ ولا صفا له المشروب». قال:«...إلى أن قال في آخر جوابه: وبالجملة فالسلامة في تسليم حالِ القومِ».

ثم قال: «وأجاب أيضاً بمثل ذلك بعضُ أئمة الحنفية والمالكية، كلُّهم أجابوا بالموافقة من غير مخالفة».

ثم قال: «أقولُ: وكيف ينكرُ الذكر قائماً والقيام ذاكراً وقد قال الله تعالى:]اُلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اُللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا[(آل عِمرَان: الآية 191)الآية.وقالت عائشة رضي الله عنها: «كان رسولُ الله يذكرُ الله في كلِّ أحيانِه»(2). وإن انضمَّ إلى هذا القيام رقصٌ أو نحوه فلا إنكارَ عليهم في ذلك، لأنهم من لذة الشهودِ و المواجيد. وقد ورَدَ حديثُ رقص جعفر بن أبي طالب(3) بين يدي رسول الله لما قال له: «أشبَهْتَ خُلُقي وخَلْقي»(4) وذلك من لذة هذا الخطاب ولم ينكِر . فكان هذا أصلاً في رقص الصوفية لما يدركُونه من لذة المواجيد».

قال: «وقد صحَّ القيام والرقص في مجالس الذكر والاستماع عن جماعة من كبار منهم شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام»اهـ بلفظه. والمراد بالرقص التمايلُ يميناً وشمالاً، وهو الذي عليه السادات الخلوتية.

وفي رسالة ألَّفها في آداب الذكر الأستاذ الحفني أحد أركان الطريقة الخلوتية ، وقد جَرَى له ذكر القيام في الذكر ما نصّه: «وينبغي للذاكر أن يكون في غاية الخشوع والأدب ملاحظاً للمذكور كأنه واقفٌ بين يدَيْه، ولا يضرُّه التمايلُ يميناً وشمالاً...»، إلى أن قال: «ولا غبرة بما أنكرَ به بعض الناس على القوم في التمايل، وقالوا: لم يَرِدْ بذلك نصٌّ، وإنَّما ورد الحثُّ على ذكر الله من غير تمايل...»، قال: «والجوابُ أن الحافظ أبا نعيم روى عن الفضيل بن عياض أنه قال : كان أصحابُ رسول الله إذا ذكروا الله تعالى تمايلُوا يميناً وشمالاً، كما تتمايل الشجرةُ في الريح العاصف، إلى قدام، ثم ترجع إلى وراء...». ثم قال: «فاغتنمْ يا أخي ذلك، وإن كنتَ منكِراً ولا بد، فأنْكِر على أهل المحرَّمات بالنص» اهـ.

وذكر في هذه الرسالة من فوائد التمايل المذكور أنه يزيد في النشاط للذكر. ومما يجب أن يلتحق بالأمور التي يجب التحرُّز منها في الذكر على هذه الطريقة حضور الأحداث ديناً وسناً. أما الحدث ديناً فكالمتزهِّد الذي لا ذوق عنده وشأنه أن ينكِر ما لا ينكَرُ، أو كصاحب دنيا مستغرق قلبه وفكره في حبِّها وشأن هذا أن يحوِجَ غيره إلى المداراة الكثيرة الخارجة إلى حدِّ التكليف، أو كمتكلِّف للوجد وشأنه أن يشوِّس الوقت على الحاضرين.وهؤلاء الأصناف الثلاثة في صحبتهم عناءٌ كبير على أهل الصدق والإرادة،ما لم تتطهرْ نفوسُهم مما شأنهم من الشؤون المذكورة اللازمة لهم ما داموا أحداثاً في الطريق. وقد كره القومُ حضور أمثالهم في الذكر بالسماع بأنهم غيرُ جنسهم، وقد تقدَّمت الإشارة إلى أن الجنسية في هذا الباب مشترطةٌ عند أهل الطريق، وهي صاقة عندهم بما تقدم وبهذا أيضا، فافهم ذلك.



(1) كذا بالأصل.

(2) رواه البخاري في (الحيض:7)، وفي (الأذان:19)، ومسلم في (الحيض:117)، وأبو داود في (الطهارة:9)، وابن ماجه في (الطهارة:11)، وأحمد:70/6، 153.

(3) جعفر بن أبي طالب (عبد مناف) بن عبد المطلب بن هاشم، صحابي هاشمي، من شجعانهم، يقال له «جعفر الطيار» وهو أخو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكان أسن من علي بعشر سنين، وهو من السابقين إلى الإسلام أسلم قبل أن يدخل النبي r دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية. استشهد في وقعة مؤتة سنة (8هـ).

انظر الإصابة: 237/1، وصفة الصفوة: 205/1، ومقاتل الطالبيين: 3، وحلية الأولياء : 114/1، وأسد الغابة.

(4) البخاري في (الصلح:6)، وفي (فضائل الصحابة: 10)، والترمذي في (المناقب:29).

  
×

الحدثُ سناً فإنه مظنةٌ للفتنة


 

وأما الحدثُ سناً فإنه مظنةٌ للفتنة،ولا سيما إن كان ذا وضاءةٍ وصوتٍ حسنٍ، واتخذ حادياً للقوم، فإنَّ الأمر فيه خطر جدّاً، وتجنب مثل هذا في كل مجلس ومجتمع واجب ولا سيما في مجالس الذكر التي يتعرَّض فيها لما يردُ على القلب من الفتح والسرّ.وقولنا: «فإنه مظنة للفتنة»، قال ابن الصلاح: ليس المرادُ بخوفِ الفتنة غلبة الظنّ لوقوعها، بل يكفي أن يكون ذلك نذيراً.

قلت: وكيف يكون نذيراً، وقد قال الشيخ مولانا عبد القادر الجيلاني : «أما النظر إليه، أعني الحدث، كله شرٌّ ما فيه ذرةٌ من خير» اهـ. قال بعضهم: «وكثير من الناس لا يقدمون على الفاحشة ويقتصرون على مجرَّد النظر والمحبة، ويعتقدون أنهم سالمون من الإثم ولبسوا سالمين» اهـ. وذُكِر عن رجل من الصالحين أنه نظَر إلى صبيِّ حسنِ الوجه وقال: تبارك الله أحسن الخالقين، فجاءه سهمٌ فقَلَع عينَه، فبات تلك الليلة وهو مهمومٌ بسبب ذلك، فرأى الحقَّ سبحانه وتعالى في المنام وهو جلَّ وعلا يعاتبه بسببِ نظره فقال: يا ربّ إنما نظرتُ بعين الاعتبار والتفكُّر في خلقك، فقال له الحق تبارك وتعالى: نظرتَ بعين الإعتبار فرميناكَ بسهمِ الأدبِ، ولو نظرت بعين الشهوة رميناك بسهم الحرمان اهـ انظر ''الرسالة'' وشروحها.


×

حضورُ النساء بالقرب من حِلَقِ الذكر


 

ومن ذلك أيضاً حضورُ النساء بالقرب من حِلَقِ الذكر بحيث يسمعنَ نغمة الحادي وينظرنَ إلى الرجال الذاكرين لما في ذلك من المفسدة المحقّقة عند كلِّ لبيب نبيل، ولا سيما في هذا الزمان الرذيل، الذي تراكمتْ فيه الفتن، وعظمتْ فيه المحن، فلا يقرُّ على هذا الفعل إلا من لم يشفقْ على نفسه ودينه، والعياذ بالله تعالى.

وفي الحديث: «باعِدُوا بَيْنَ أنفاسِ الرِّجالِ وأنْفاسِ النِّساء» أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وقال بعض العارفين: «ما أيِسَ الشَّيطانُ من إنسيٍّ قط إلا أتاه من قِبَلِ النِّساء». وقال سفيان(1): قال إبليس بالزاوية وجلوسهن بحيث يتوسَّمن وجوهَ الداخلين والخارجين منها، وبحيث يسمعْنَ صوت الحادي وهييعلم ما في ذلك من المفسدة المحققة مع ما يعلمُه من سيرة سيدنا الشيخ ولو لم يكن إلا ما ثبتَ عنه t من أنه أقرَّ القيم على مآربه في الليلة التي توفي صبيحتها أن يدعو ثمانية نفرٍ من خاصَّة أصحابه الأتقياء الأبرياء ليبيتوا معه،  ثم بعد أن خرج في طلبهم دعا بالقيم فقال له: «إنِّي فكرت فيما كنت أمرتُك به من إعلام أصحابنا للمبيت معنا، فعلمتُ أني  لا أستغني عن الخدم، والرجال والنساء لا يمكنُ اجتماعُهم بمكان واحد»، ويغلب على الظنِّ أنه tقال له:«وقد قال : «باعِدُوا بين أنفاسِ الرجال» الحديث السابق» لكان كافياً. هذا مع ما ترى عنه من أن يدَه لم تصافِحْ يَد امرأةٍ قطُّ عند التلقين للوِرْد، وكان يأمر ذوي محارمهن أن يلقنهن وربما لقن بعضهنَّ  بالكلام فقط. ومن المتواترِ أنه كان لا يتركهنَّ أن يواجهْنَه عند زيارتهنَّ له وطلبهنَّ الدعاء منه، وإنَّما كان يأمرهنَّ أن يقفْنَ خلفه من بعدُ، فيعلمه القائمُ بين يديه من أصحابه الأخيار الأتقياء الأبرار بهنَّ وبمطالبهنَّ، فيدعو لهن، كلُّ ذلك كان يفعلُه t متابعةِ للسنة وسدّاً للذريعة في هذه المفْسَدة التي هي لا محالة أشد بلية وأعظم فتنة   ]فَلْيَحْذَرِ اُلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[(النُور الآية: 63). وما ذكرت هذا إلا أداءً للنصيحة الواجبة في الدين، وخصوصاً لإخواننا وأصحابنا وأهل طريقنا الذين لهم الحقُّ الكيد علينا. ولا أظنّ أن أحداً ممن يقفُ عليه يكابرُ فيه أو تشرئبُّ نفسه إلى البحث فيما تضمَّنه واشتملَ عليه، لأنه الصراط المستقيم، المأمورُ باتباعه دون السبل التي تتفرّق بمتبعيها على سبيل الحق والهدى القويم.

ونَهْجُ سَليلي واضِحٌ لمنِ اهْتَــدى

 

ولكنَّما الأهْواءُ عَمَّتْ فأَعْمَـتِ

 

[تتمة]تزيد المستفيد فائدة في هذه النازلة المهمة

رأيتُ في جوابٍ لسيدي أبي القاسم بن خجو فيما يتعلّق بهذه المسألة، قال فيه بعد أن سدَّره بقوله قال تعالى: ]أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوَءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا ۖ[ (فَاطِر: الآية 8)ما نصّه: «هذا الفعلُ، يعني مخالطة النساء الأجنبيات للرجال، لا يحلّ ولا يسوَّغُ لمن كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر، إذ مخالطةُ النساء الأجنبيات لا يتعاطاها مع السلامة من الخلوة ذو عقلٍ سليم...»، إلى آخر كلامه الذي قال فيه: «ولا ينبغي أن يتَّخذ شيخاً إلا عالماً سنياً عالماً بالعلم الظاهر والباطن، عالماً بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، متنزِّهاً عن الطمع وهوى النفس والأهواء المضلَّة كسيدي عبد الله الهبطي ومن ضارَعه من السادات الأخيار الملازمين لسنة النبيّ المختار.ومن كان يدعو إلى الله تعالى ويتعاطى غيرَ سنة رسولِ الله r فهو محمودٌ في دعائه إلى الدين، مذمومٌ وملوم في تعاطيه ما يخالف سنة رسول الله ، فينبغي أن يؤمر بالتوبة والاتباع، وينهى عن المخالفة والابتداع».ثم قال: «وخلوةُ النساء أفضل لهنَّ، يعني أفضل وجوه العبادات في حقهنَّ». قال: «فمن أرادتْ أن تزورَ سيدي فلاناً وسيدي فلاناً، وذكَرَ جماعةً من الصالحين فلتزرْه في بيتها تدعو له وتهدي فهو أفضل لها ؛ فالعاقلةُ الدينة تزورُ جميعَ الأنبياء والملائكة  والأولياء في بيتها، والحمقاءُ الجاهلة المستخفَّة في دينها تطاوُع هواها ويأخذُ الشيطان بناصيتها ويقودُها إلى المهالك والبِدَع المحرَّمة». ثم قال في آخر الجواب: «وقيل لسودة أم المؤمنين (2) رضي الله عنهما: لِمَ لا تحجِّينَ ولا تعتمرينَ؟ فقالت: قد حجَجْتُ واعتمرتُ، أمرني الله أن أحجَّ في بيتي». قال: «قال الراوي: والله ما خرجتْ من باب حجرتها حتى خرجتْ جنازتها رضي الله عنهما». وقولها: «أمرني الله تعالى أن أحج في بيتي» أشارتْ به رضي الله عنهما إلى قوله تعالى لهن: ]وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ[(الأحزَاب: الأية 33)والله تعالى أعلم.





(1) المراد سفيان بن عيينة، وقد تقدمت ترجمته.

(2) هي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس، من لؤي، من قريش، إحدى أزواج النبي r، كانت في الجاهلية زوجة السكران بن عمرو بن عبد شمس، وأسلمت، ثم أسلم زوجها، وهاجرا إلى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم عادا إلى مكة، فتوفي السكران، فتزوجها النبي r بعد خديجة، وتوفيت بالمدينة سنة (54هـ).

انظر طبقات ابن سعد : 35/8، والإصابة: النساء ت (603)، وأسد الغابة.
×

دقيقة


 

(دقيقة)قد عرفت تواطؤ جُلِّ مشايخ التحقيق في مشارق الأرض ومغاربها على اختيار يوم الجمعة لهذه الحضرةِ، وقد علمت أن المقصودَ الأهمَّ من هذه الحضرة وخصوصاً على الكيفية المخصوصة بإسماع استجلابِ الوجْدِ وإثارة كامنِ أنوار العرفان، فكأنهم yأرادوا أن يسير السالك بذلك أحواله وأقواله في ذلك الأسبوع، فتجنى ثمرةُ أقواله وأفعاله من أحواله في الأسبوع كلِّه يوم الجمعة باستغراقه في الحضرة على قدر استعداده، وذلك لأن يوم الجمعة يومُ المزيد لكل صادق.

وقد ذكروا عن بعضهم أنه كان يجعل ما يجده عند الجمعة محكاً يعير به أحواله في سائر الأسبوع الذي مضى، فإنه إذا كان الأسبوع سالماً يكون له يوم الجمعة مزيد الأنوار، وإذا كان الأسبوع على عكس كان الأمرُ بخلاف ذلك، مما يجده السالك من ظلمة القلب وسآمة النفس وقلَّة انشراح الصدر يوم الجمعة، فهو مما ضيعه في الأسبوع. والرجاء قوي أنه إذا جاهد نفسه في سآمتها ودخلَ الحضرة واستعملَ ما أمكنه من الحضور، انجبر حالُه فيما ضيعه في الأسبوع ببركة الذكر والذاكرين وشفاعة الشافعين، والله تعالى أعلم وأحكم.

×