ذكر الوظيفة | بقية شروط الوظيفة الزائدة على ما تقدم

بقية شروط الوظيفة الزائدة على ما تقدم
 
أي هذا مبحث ذكر شروطِ الوظيفة الزائدة على ما اشتركت فيه مع الورد، فقال رحمه الله تعالى :
مِن ذلكَ الجُلوسَ والجمْع لِمنْ
كانَ لَهُ أخّ صحيحٌ في الوَطَنْ
وشَرطُه التَّحليقُ والجَهرُ كذا
عَدَمُ تَخليطٍ فَراعِ المأخَذا
أشار بهذا إلى أن من شروط الوظيفة (الجلوس) إلا لعذرٍ كالمسافر الجادّ في السير راجلاً أو راكباً، إلا أنه يترجَّل عند ذكر «جوهرة الكمال«  كما سيأتي قريباً. ومن شروطها أيضاً (الجمعُ) لقراءتها مع الإخوان إن كان ثم إخوان ليس لهم عذرٌ يمنعُهم من الاجتماع من مرضٍ ونحوه، ثم إن هذا الجمع للوظيفة له شروطُ (التحليق وليس المراد عقد دائرةٍ كالحلقة، بل المراد التراصّف وسدّ الفُرجِ سواء كان جلوسُهم على  هيئةِ الدائرة أو على أن يقابِلَ كلُّ صفِّ الصفَّ الذي قبالته من الجهات الأربع كما عليه عملُ فاس وغيرِها من الحواضر. ومن آداب المريد في هذا التحقيق أن لا يقصدَ بجلوسِه أعلى المجلس ولا أسفلَه لما في ذلك من رؤية النفس حسبما هو ظاهرٌ في قصد الأعلى ولا إشكال، وأما قصدُ الأسفل فقد يكونُ من دسائس النفس حيث تظهرُ أنها اختارت الأذنى، وهو أعلى في الحقيقة من حيثية أخرى كما لا يخفى، لأنها تثبثُ بلسان حالها لنفسها مزية بقصدها الأسفل.

وبالجملة فحبُّ العلوِّ ظاهرٌ في القصدين معاً إلا أنه في الأول جليٌّ وفي الثاني خفي، ولهذا تلا سيدنا بعد نهيه عن القصدين معاً قوله تعالى: ] تِلْكَ الدَّارُ اُلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اُلأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا ۚ[    (القَصَص: الآية 83) الآية، فقيل له : أهذا علوٌّ؟ قال :  وأيُّ علوِّ؟ وقد تقدَّم  لنا مزيدُ بسط في هذا الأدب في المقدمة، فليراجعه هنالك من أرادَه.

ومن شروطِ الجمْعِ للوظيفة أيضاً (الجَهرُ فلا معنى للاجتماع وذكر كلِّ واحدٍ على حدته سرّاً مثلاً، وفائدة ذلك وجَدْواه شهيرةٌ عند أهل الطريق حتى كادتْ أن تكون من الأمر الضروري عندهم، وهذا في حقِّ الرجالِ فقط، وأما النساءُ فلا يجهرنَ بالذكر في وظيفة ولا في غيرها.

فقد ذكر العلماءُ في الجهْرِ، ووجّهوه بأن صوتها عورةٌ، وربما كان فتنةً، ولذلك لا تؤذَنُ اتفاقاً، حكاه في شرح الحصن وقال بعده ما نصّه: وعلى هذا فلا يكونُ ذكرُها إلا سرًّا في الأحزابِ المرتبة والوظائف وغيرِ ذلك اهـ راجع ''شرح الحصن''.

ومن شروط ذلك أيضا «عدمُ التخليطِ في الذكر«  لما في ذلك من سوء الأدب المنافي لما هو المطلوبُ في المقام والكلام في هذه الشروط مبسوط في كتب الطريق، وقوله: «فراعِ المأخذا«  أراد به فاحكم هذه الشروط مراعياً في إحكامك لها مآخِذَها، وهي الأحاديث الواردةُ بالترغيب في الجهر بالذكر جماعةً، فإنَّك بمراعاتها تعرفُ أنه لا بد من جميع الشروط المذكورة، وذلك لأن أحاديث الترغيب في الجمع للذكر يؤخَذُ منها أنه لا بدَّ من الجهر وإلا فلا فائدة في الجمع، ويؤخَذُ من الجمع والذكر جهراً أنه لا بدَّ من ذكرهم بلسان واحد وصيغة واحدة، وإلا بأن كانوا يجتمعونَ ويجهرون بالذكرِ والفرض أن كلّ واحدٍ يذكرُ وحدَه، فذلك يؤدي إلى التخليط الفادحِ وتشويشِ البعض على البعض، وذلك منافٍ لنعْتِ العبادة، وأعمالِ الطَّاعات فافهم.

(تنبيه) اعلمْ أني كثيراً ما كنتُ أرى النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى يعيبُ على من يكمل البيت من النظم بلفظِ أو لفظين لا فائدة تحتهما إلا التوصُّل إلى القافية، وبعد ذلك فهاهة(1)، فلذلك تجدني أتتبَّعُ شرْحَ مثل ذلك من كلامه نحو قوله هنا: «فراع المأخذا« ، فإنه قصَدَ به الإشارة إلى ما شرحناهُ به، لا أنه كمل به البيت فقط، فتأمل ذلك.
ثم قال رَحِمَهُ اللهُ تعالى :

وتركُـه لغَيرِ عُـذرٍ شَرعِـي
أوْ كـلِّ الأوقـاتِ لَـهُ ذُو منْـعِ

أرادَ بهذا أن ترْكَ الجمْعِ للوظيفة لغير عذرٍ شرعي يعرض في الوقت، وكذلك تركُها كل الأوقاتِ للعذر الشرعي ممنوعٌ عندنا في الطريق، بمعنى أن فاعلَ ذلك ترك ما هو لازم له لزوماً مؤكداً في الطريق، فيُعدّ متهاوناً بها، ولا يخفى وخامةُ مرْتع التهاونِ، والعياذ بالله تعالى. ثم إن قوله: «أو كل الأوقات له« أي للعذر الشرعي فيه وقفة، لأنه كما يعذر بحصولِ العذر الشرعي في بعض الأوقات يعذرُ في كلِّها إذا استمرَّ عارضُ العذر الشرعي لا يستطاع معه الفعل.

ووجْهُ المخرج من هذه الوقفة هو أن النَّاظم رَحِمَهُ اللهُ تعالى عقد في هذا البيت نص ''جواهر المعاني''، وما في ''الجواهر'' خرج مخرج الترغيب وتأكيده في الخير، فبنى الكلام فيه على الغالب مع قطع النظر عن النادر، حتى كأنه لا وجودَ له كما هو الشأن في مثل ذلك، وبيانه أنه قلَّما يكون عذرٌ يعرضُ سائرَ الأوقات، إذ الغالبُ أن الأعذارَ لا تعمُّ الأوقاتِ كلّها، فإن وجد فهو نادرٌ، والنادرُ لا يعتبر في مثل هذا المقام، والله أعلم وأحكم.

ثم قال رَحِمَهُ اللهُ تعالى :

ونَشرُنا للثَّوبِ لَيْـسَ يَجـبُ عَلـى الَّذِي يَذْكرُها بَلْ يُندبُ
وشَيخُـنا فُعـلَ ذَا بمَحضَـرِه
عفَرَغ مَقالة جَهولٍ مُنكِره

(للثوب)، (ليس يجب)، (يذكرها)، (بل يندب) ؛ وباقي ألفاظ البيتين واضحٌ.

و أشار بهذا إلى أن ما استمرَّ عليه عملُ أصحاب سيدنا الشيخ  من نشر ثوب محقق الطهارة عند قراءة جوهرة الكمال في الوظيفة من عهْدِ الشيخ  إلى الآن ليس بلازمٍ في الطريق، بحيث لا يسوغ ذكرُها إلا معه، وإن كان المحلُّ طاهراً حكماً، لكنه مما ينبغي ويستحبُّ، لمكان الخاصية التي اختصَّتْ بها هذه الصلاة الشريفة عن غيرها من الأذكار، وهي حضورُ النبي ، والخلفاء الأربعة على ما سيوصف قريباً إن شاء الله تعالى لا غير.

و الأصلُ فيه عندنا خصوصاً على  ما حدَّثني به السيد الجليل الحاج الأبرّ الفاضل الناسك سيدي عبد الوهاب بن التاودي، أحدُ خاصةِ أصحابِ سيدنا ، و خزانة أسراره، و ورثة أنواره، قدَّس الله سرَّه و أعاد علينا من بركاتِه و هو أنهم كانوا يقرُّون الوظيفة في أولِ الأمر قبل إنشاء الزاوية بفاس بباب دار الشيخ ، وهو حاضرٌ معهم ، وكانت البقعةُ طاهرةً حكماً يصلي بها مع جماعةٍ من أصحابه، لكن حيث كان المحلُّ محلَّ توارُدِ الناسِ عليه للزيارة وممرّ الداخل للدار والخارج منها أمَر بنَشْر ثوبٍ يعمُّ البقعة كلّها، يعني وسَطَ الحلقة، ويكون محقق الطهارة غيرَ مكتفَى فيه بالطهارة الحكمية بحيث لا ينشَرُ إلا عند قراءة الأصحاب لجوهرة الكمال، ثم يُطوى ويُصان إلى مثل ذلك الوقت، ثم يعد نشْءِ الزاوية استمرَّ الإخوان على ذلك العمل بمرأى ومسمعٍ من الشيخ ، لاستحسانهم له لما فيه من الأدب الخاصِّ مع هذا الحضور الخاص، ولأنه مشعِرٌ به ومُعين على الحضور والتأدب الواجب فيه، ثم تتابَعَ الناسُ في سائر أقطاب الأرضِ على هذا العمل، إلا النادرَ منهم ممن لم يتبينْ وجهه، ومن أجل هذا تعسَّف(2) بعضُ من ينتسبُ للعلم في البحث فيه، وأفرغَ ذلك في قوالب من الألفاظ بشيعة تنادي عليه عند كلِّ مؤمن منصفٍ بمجرَّد ما يسمعُ ذلك المقال يعلم تحقيقاً أنه مقالُ من قطع الحسدُ منه الأحشاءَ والأوصال، والحسودُ لا يسود أبداً، ولا يموتُ من كثرة الغمِّ الداخل عليه إلا كَمداً، والعياذُ بالله تعالى منه ومن كلِّ داءٍ عُضال، يعود على من ابتُلي به بوَخَامة الحالِ وسوء المآل. هذا وقد عرف ما قاله العلماء حسبما في ''عدة الحصن الحصين'' وشرحه، من أنه ينبغي أن يكون المكانُ الذي يذكر الله فيه نظيفاً خالياً، قالوا: فإنه أعظمُ في احترام الذكر والمذكور، ولهذا مُدِح الذكر في المساجد والمواضع الشريفة ولا معنى للنظافة إلا المبالغة في التطهير وتحصيل القدر الزائد على الطهارة الحكمية كما لا يخفى.

قال في ''شرح الحصن'': وجاءَ عن الإمام الجليل أبي مَيْسَرة  قال: لا يُذكَر الله تعالى إلا في مكان طيب اهـ.

ونُقل عن صاحب ''تهذيب الأذكار'': ينبغي تطييبُ المجلس  بالرائحة الطيبة لأجل الملائكة والجنِّ. وقطْعِ العلائق المشوشة إلخ. يشيرُ إلى معنى قولهم» خالياً«، إذ الذي ينبغي أن يراد هنا من معاني الخلوة عندهم البعدُ عما يشوِّشُ البالَ ويشتِّت الفكر، والله أعلم.

فأنت ترى ما قاله العلماءُ  في آداب الذكر على الإطلاق، فكيف ينكرُ على من أكَّد هذه الآداب أو بعضها في ذكر مشتملٍ على ذكر الله تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته العلى؟ وذكر الحبيب الأعظم ، ومدْحِه والثَّناءِ عليه ببعض أوصافه الكمالية، ونُعُومته الجمالية والجلالية، وخصوصاً مع وجود الخاصية العظمى فيه كما مرّ، وسيأتي أيضاً. وهل لنَشْر الثوب المذكور معنًى إلا المبالغة في النظافة التي نصَّ العلماء على أنها مستحبَّةٌ، وأنها أعظم في احترامِ الذِّكْر والمذكور؟. وهل المتعسِّف بالبحث في ذلك بعدما تقرَّر عن العلماء فيه من الاستحباب إلا من أكبر الجهلة الأعمار(3)، وممن سجّل عليه بالشقاء لمحاربته مولاه جلَّ وعلا بمعاداة أوليائه الأبرار؟.

(تنبيه) وقد وَقَع لصاحب ''الجيش الكبير'' في كتابه هذا وكذا في سريته، أن الشيخ   لم ينشر الثوبَ في قيد حياته، وأنه مما استحسن فعله أصحابه  بعد وفاته، وذلك لأنه لم يحفظْ ما تقدَّم مما ثبتَ عن الشيخ ، ولم يُغْنِه الأمرُ على ما هو عليه في ذلك، لبعد ما بين بلده وبلد الشيخ رضي الله عنه، ولذلك احتاج النَّاظم إلى التنصيص على ذلك بعينه في قوله: (وشيخنا فعل ذلك بمحظره)، فافهم والله تعالى أعلم.

 

 

 


(1) الفهاهة : العِيُّ، وفعله : فَهَّ يَفَهُّ فَهَهاً وفهاهةً، عَيِيَ، وزلَّ من عي أو غيره.

(2) تعسَّف : سار على غير هدًى.

(3) الأغمار : جمع الغِمْر، وهو قليل التجربة والخبرة.

 

****

للثوب


قوله: (للثوب) أي للفراش المحقق الطهارة، وإن كانت البقعةُ طاهرةً حكماً ×

ليس يجب

 
 

وقوله: (ليس يجب) أي ليس يلزم عندنا بحيث لا يسوغ لنا أن نقرأ جوهرة الكمال إلا إذا نشرناه وإن كان المحلُّ طاهراً حكماً، بل الحكم فيه الاستحبابُ كما صرَّح 

  ×

يذكرها

 
 

والضميرُ في (يذكرها) للوظيفة ؛ ويريد عند قراءة جوهرة الكمال لا كل الوظيفة

  ×

بل يندب

 
 

وقوله: (بل يندب) أي ينبغي للذاكر لجوهرة الكمال نشره مبالغة في تحقيق الطهارة، رعياً للأدب المطلوب في هذا المقام بالخصوص للخاصيَّة الشهيرة في هذه الصلاة الشريفة على ما سيبين  ×