فضل أذكار الطريق | الأدب في القصد بالصلاة على النبي

الأدب في القصد بالصلاة على النبي

نقل العارفُ بالله تعالى سيدي عبد الرحمن بن محمد الفاسي عن الأستاذ القشيري رَحِمَهُ اللهُ تعالى في تفسير قوله تعالى:]إِنَّ اُللَّهَ وَمَلَٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اُلنَّبِيِّ ۚ[(الأحزَاب: الآية 56) الآية، ما يؤذن بأنه ينتفعُ بصلاتنا عليه قائلاً في آخر كلامه على الآية بما يؤذن بما ذكر ما نصّه: «وفي هذا إشارة إلى أن العبدَ لا يستغني عن الزيادة من الله تعالى في وقتٍ من الأوقات، إذْ لا رتبة فوق رتبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد احتاج إلى زيادة صلوات الله عليه» اهـ.ثم نقل، أعني العارف بالله، عن غيره من الأئمّة المحققين ما يظهرُ منه خلافُه، وأن النفع بصلاتنا عليه راجعٌ إلينا لا إليه. ثم قال، أعني العارف بالله: «فالظاهرُ الخلافُ، والله أعلم». قال: «وقد يقال: لا خلاف وأن أحدهما تنبيه على الأدب في القصد والآخر إخبارٌ عن كرم الله تعالى، وعدم تناهي أفضاله» اهـ.

وهذا من العارف بالله توفيقٌ حسنٌ وجمع مستحسَنٌ، إذ ردَّ القولين إلى قول واحدٍ، وهذا القول المتضمِّن للتنبيه على الأدب في القصد هو الذي تواطأتْ عليه نصوصُ جماعةٍ من العلماء العاملين والمشايخ الكاملين. قال العارف  بالله تعالى سيدي عبد الرحمن بن محمد الفاسي ، إثْرَ التوفيق السابق ما نصّه: «وقال في ''المواهب اللّدنية'' ما نصّه: قال الحليمي: والمقصودُ بالصلاة عليه التقرُّب إلى الله تعالى وقضاء حقِّ النبيّ  علينا». وتَبِعه ابن عبد السلام فقال في الباب الثامن من كتابه المسمى بـ ''شجرة المعارف'': «ليستْ صلاتُنا على النبي شفاعةً له، فإن مثلَنا لا يشفَعُ في مثله، ولكن الله تعالى أمرَنا بمكافأةِ من أحْسَنَ إلينا، فإن عجزْنا عنها كافأناه بالدُّعاء، فأرشدَنا الله تعالى لما علم عجزنا عن مكافأة نبيّنا إلى الصلاة عليه»، وذكر نحوه عن الشيخ أبي محمد المرجاني.

وقال ابن العربي: «فائدةُ الصلاةِ عليه ترجعُ إلى المصلِّي عليه لدلالة ذلك على نصوص العقيدة وخلوصِ النيّة وإظهار المحبة، والمداومة على الطَّاعة، والاحترام للواسطة الكريمة، »اهـ بلفظه.

فهذه النصوصُ كلْها مشيرة إلى القول الثاني المتضمنِّن للتنبيه على الأدب في القصد بالصلاة على النبي لا شك عند من أنصفَ أن الاقتصارَ على ملاحظة ما أشار إليه هذا القول عند القصد إلى الصلاة عليه هو العصمةُ بحول  الله تعالى في بساط التربية، فمهما مال المصلِّي عليه عن ملاحظة ذلك إلى غيرِه أساءَ الأدب، وزلَّ في مهواة العطبِ والعياذُ بالله تعالى. وقد أوضحَ الحقُّ في هذه المسألة أمَّ إيضاحٍ وأكمله القطب الكبير سيدي عبد العزيز الدباغ فيما نقلَه عنه تلميذه العالم الكبير سيدي أحمد بن مبارك في ''الذهب الإبريز''، فإنه رَحِمَهُ اللهُ  تعالى ذكَر فيه أنه سأله هل ينتفعُ النبي بصلاتنا عليه أو لا ينتفع؟ وذكَر له خلافَ العلماءِ في هذه المسألة، فأجابه بقوله: «لم يشرِّعْها الله سبحانه بقصْدِ نفْعِ نبيِّه وإنَّما شرَّعها بقصد نفعِنا خاصةً، كمن له عبيدٌ فنَظَر إلى أرْضٍ كريمة لا تبلغُها أرضٌ في الزراعة، فدعا عبيدَه فأعْطاهُم تلكَ الأرضِ على أن يكونَ الزرعُ كلُّه لهم يستبدرون به(1)، فهذا حالُ صلاتنا على النبيّ فأجْرُها كلّه لنا، وإذا اشتعلَ نورُ أجرِها في بعض الأحيان واتّصلَ بنورهِ نراه بمنزلة شيءٍ راجعٍ إلى أصله لا غير، لأن الأجورَ الثابتة للمؤمنين قاطبة إنما هو لأجلٍ الإيمان الذي فيهم، والإيمان الذي فيهم إنما هو من نورِه فصارت الأجورُ الثابتة لنا إنَّما هي منه ، ولا مثال لذلك في المحسوسات إلا البحر المحيط مع الأمطار، إذا جاءت بمائها السيولُ إلى البحر، فإن ماءَ الأمطارِ من البحر، فإذا رجَعَ إلى البحر فلا يقال إنه زادَ في البحر...» إلى أن قال في جوابه هذا: «فترى الرجلَ يقرأ دلائلَ الخيرات، فإذا أراد أن يصلِّي على النبي صوّره في فكره وصوّر الأمورَ المطلوبة له كالوسيلة والدرجة الرفيعة والمقام المحمود وغير ذلك مما هو مذكورٌ في كل صلاة، وصور نفسَه طالباً لها من الله تعالى وقدر في نفسه أن الله تعالى يجيبُه ويعطي ذلك لنبيه على يد هذا الطالب، فيقعُ في ظنِّ الطالب أنه حصلَ منه للنبيِّ نفعٌ عظيم، فيفرح ويستبشرُ ويزيد في القراءة ويبالغ في الصلاة ويرفعُ بها صوته، ويحس بها خارجة من عروق قلبه ويعتريه خشوعٌ، وتنزلُ به رقَّةٌ عظيمة، ويظنُّ أنه في حالة ما فوقَها حالة، وهو في هذا الظن على خطأ عظيم، فلا يصلُ بصلاته هذه إلى شيء من الله تعالى لأنها متعلِّقة بما ظنه وصوّره في فكره، وظنه باطلٌ لا يتعلَّق بالحق سبحانه، وإنَّما يتَّصل بالحق سبحانه ما هو حق في نفس الأمر، فكلُّ ما كان كذلك فهو متعلِّق بالحق سبحانه.فليحذر المصلِّي على النبيّ من هذه الآفة العظيمة، فإن أكثرَ الناس لا يفطنون لها، ويظنون أن تلك الرقة والحلاوة الحاصلة لهم من الله سبحانه، وإنما هي من الشيطان ليدفعهم بها عن الحقِّ ويزيدهم بها بعداً، وإنَّما ينبغي أن يكون الحامل لهم عليها محبته وتعظيمُه لا غير، وحينئذٍ يشتعل نورُها، وأما إن كان الحاملُ عليها نفع العبد نفسه فإنه يكون محجوباً وينقصُ أجرُه، وإن كان الحاملُ عليها نفعَ النبي فإن صلاته حينئذٍ لا تتعلق بالحق ولا تبلغُ إليه»اهـ، وهو من أجل ما يعتمده المريد في بساط التربية الخاصة.

وقوله: «فإن صلاته حينئدٍ لا تتعلّق بالحق» إلخ، يريد والله أعلم لأنه لاحظ فيها أنه يحصلُ النفع للنبيّ، وفي هذه الملاحظة سوءُ أدبٍ ظاهر. وانظر عبارة سيدنا ومولانا الشيخ في هذه المسألة آخر كتاب ''جواهر المعاني''، فإنها الشافيةُ الكافية في الباب، والله الموفق للصواب.





(1) يستبدرون : من البيدَر، أي يتخذون من هذا الزرع بيْدراً يعيشون منه.