خزانة أبي المواهب | كتب الفقه

خزانة أبي المواهب
كتب الفقه


اضغط على صورة واجهة الكتاب للتعريف بالمصنف، على اسم المؤلف للتعريف بصاحبه، و على عنوان أو أجزاء الكتاب لتحميله كليا أو جزئيا (عند توفره).


« موطأ الإمام مالك» - الإمام مالك بن أنس (93-179هـ/711-795م)


« فتاوي الإِمامِ النَّوَوَيِ»المُسمَّاةِ بـ« المَسَائِل المنْثورَةِ» - الشيخ محي الدين النووي (631-676هـ/1233-1277م)


« مختصر خليل» - خليل بن إسحاق (تـ 776هـ)


« مواهب الجليل في شرح مختصر خليل» - محمد الحطاب (تـ 954هـ)
مواهب الجليل في شرح مختصر خليل-ج1، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل-ج2، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل-ج3، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل-ج4، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل-ج5 ، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل-ج6، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل-ج7.

« الشرح الكبير للشيخ الدردير على مختصر خليل» - الشيخ أحمد الدردير (1127-1201هـ/1715-1786م)
               و« حاشية على الشرح الكبير لمختصر خليل» - الشيخ محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي (1230هـ/1815م)
الشرح الكبير للشيخ الدردير و حاشية الشيخ الدسوقي عليه-1، الشرح الكبير للشيخ الدردير و حاشية الشيخ الدسوقي عليه-2، الشرح الكبير للشيخ الدردير و حاشية الشيخ الدسوقي عليه-3، الشرح الكبير للشيخ الدردير و حاشية الشيخ الدسوقي عليه-4.

«المقدمة الوغليسية على مذهب السادة المالكية» - عبد الرحمن بن أحمد الوغليسي (تـ786هـ)

«شرح العلامة زروق على المقدمة الوغليسية» - الشيخ أحمد زروق (846-899هـ)
شرح العلامة زروق على المقدمة الوغليسية-1، شرح العلامة زروق على المقدمة الوغليسية-2.

«موطأ الإمام مالك»

الإمام مالك بن أنس (93-179هـ/711-795م)

 لجأ الخليفة أبو جعفر المنصور (ت158هـ) إلى الإمام مالك في موسم الحج طالبا منه تأليف كتاب في الفقه يجمع الشتات و ينظم التأليف قائلا: "يا أبا عبد الله ضع الفقه و دوّن منه كتبا و تجنّب شدائد عبد الله بن عمر، و رخص عبد الله بن عباس، و شوارد عبد الله بن مسعود، و اقصد إلى أواسط الأمور، و ما اجتمع إليه الأئمة و الصحابة، لتحمل الناس إن شاء الله على عملك، و كتبك، و نبثها في الأمصار و نعهد إليهم ألا يخالفوها". و ذكر ابن عبد البر رحمه الله، في كتاب "الاستذكار" (1/168) أن أبا جعفر المنصور قال للإمام مالك: "يا مالك ! اصنع للناس كتابا أحْمِلُهم عليه، فما أحد اليوم أعلم منك !!"، فاستجاب الإمام مالك لطلبه، و لكنه رفض أن يُلزِم الناس جميعا به". و رفض الإمام مالك طلب المنصور من أن يجمع الناس على كتابه، فذلك من تمام علمه و اتصافه بالإنصاف، حيث قال: "إن الناس قد جمعوا و اطلعوا على أشياء لم نطلع عليها".
"الموطأ" هو واحد من دواوين الإسلام العظيمة، و كتبه الجليلة ، يشتمل على جملة من الأحاديث المرفوعة، و الآثار الموقوفة من كلام الصحابة و التابعين و من بعدهم. و قد سمي "الموطأ" بهذا الاسم لأن مؤلفه وطَّأَهُ للناس، بمعنى أنه هذَّبَه و مهَّدَه لهم. و نُقِل عن مالك رحمه الله أنه قال: "عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة، فكلهم واطَأَنِي عليه، فسميته "الموطأ".
كتاب الإمام مالك هو أجلّ كتب الحديث المتقدمة عليه و أعظمها نفعاً، فيه الأحاديث الصحيحة المسندة، فيه البلاغات و المنقطعات و المراسيل، و لا يستدرك على الإمام مالك في ذلك؛ لأنه يرى حجية المرسل، و هذه البلاغات وصلها ابن عبد البر في "التمهيد" سوى أربعة أحاديث، كما هو معروف.
قال البخاري "أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر"، و كثيرا ما ورد هذا الإسناد في الموطأ. و قال القاضي أبو بكر بن العربي في "شرح الترمذي": "الموطأ" هو الأصل و اللباب، و كتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب، و عليهما بنى الجميع كمسلم و الترمذي. و في رواية أبي مصعب الزهري 3069 رواية عن الإمام مالك. و قال الإمام الشافعي: "ما في الأرض كتاب بعد كتاب الله عز وجل أنفع من موطأ مالك بن أنس، وإذا جاء الأثر من كتاب مالك فهو الثُّريَّا". و قال الشافعي أيضا رحمه الله: "ما في الأرض بعد كتاب الله تعالى كتابٌ أكثر صوابا من موطأ مالك بن أنس". و قال ابن مهدي: "لا أعلم من علم الإسلام بعد القرآن أصح من موطأ مالك". و قال ابن وهب: "من كتب موطأ مالك فلا عليه أن يكتب من الحلال و الحرام شيئاً". و سُئل الإمام أحمد بن حنبل عن كتاب مالك بن أنس فقال: "ما أحسنه لمن تَديَّن به".
اعتنى أهل العلم بالموطأ عناية فائقة لإمامة مؤلفه، و لعظم نفعه، و لاختصاره أيضاً يعني شرحه متيسر.
قال القاضي عياض: "لم يُعتنَ بكتاب من كتب الفقه و الحديث اعتناءَ الناس بالموطأ، فإن الموافق و المخالف أجمع على تقديمه و تفضيله و روايته و تقديم حديثه و تصحيحه، و قد اعتنى بالكلام على رجاله و حديثه و التصنيف في ذلك عددٌ كثيرٌ من المالكيين و غيرهم من أصحاب الحديث والعربية".
و كان الإمام مالك متحريا في الرواية منتقيا للرجال أحسن الانتقاء منتقدا للرجال أشد الانتقاد. فعن الربيع قال: "سمعت الشافعي يقول: "كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كله"". و قال سفيان بن عيينة: "رحم الله مالكا، ما كان أشد انتقاده للرجال".
روى الموطأ عن مالك جمع غفير من الرواة منهم معن بن عيسى، و محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، و ابن بكير و ابن غفير، و الصوري، و يحيى بن يحيى، و علي بن زياد، و غيرهم. و من أشهر الرواة الذين رووا "الموطأ" علي بن زياد التونسي العبسي المتوفي سنة 183هـ، و هو من خبرة علماء المغرب و أجلهم، طلب العلم، و رحل بسببه إلى الحجاز و العراق، و هو ثقة مأمون، بارع في الفقه، لم يكن بعصره له شبيه.
مكث الإمام مالك أربعين سنة يقرأ "الموطَّأَ" على الناس، فكان التلاميذ يسمعونه منه أو يقرؤونه عليه خلال ذلك، فتعددت روايات "الموطأ" و اختلفت بسبب ما قام به الإمام من تعديل على كتابه، فاشتُهِرت عدة روايات للموطأ، أهمها: "رواية يحيى بن يحيى المصمودي الليثي" (234هـ) و هي أشهر رواية عن الإمام مالك وعليها بنى أغلب العلماء شروحاتهم، "رواية أبي مصعب الزهري" تمتاز بما فيها من الزيادات و بأنها آخر رواية نقلت عن مالك و هي متداولة بين أهل العلم، "رواية عبد الله بن مسلمة القعنبي" (221هـ) و هي أكبر روايات "الموطأ" و عبد الله من أثبت الناس في "الموطأ" عند ابن معين و النسائي و ابن المديني، "رواية محمد بن الحسن الشيباني"، "رواية عبد الله بن سلمة الفهري المصري" و غيرها كثير.
وقد قام كثير من العلماء بشرح كتاب الموطأ، و من أشهر هذه الشروح: "التمهيد لما في الموطأ من المعاني و الأسانيد"، و "الاستذكار لمذاهب فقهاء الأمصار و علماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي و الآثار" لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي المتوفى سنة 463هـ، "المقتبس شرح موطأ مالك بن أنس" لأبي محمد عبد الله بن محمد بن السِّيد البَطَلْيوسي المالكي المتوفى سنة 521هـ، "المسالك في شرح موطأ مالك"، و "القبس على موطأ مالك بن أنس"  لمحمد بن عبد الله بن أحمد المشهور بالقاضي أبي بكر بن العربي المالكي المعافري الأندلسي المتوفى سنة 543هـ، "كشف المُغطَّا عن الموطا" و "تنوير الحوالك" و "إسعاف المُبَطَّأ برجال الموطأ" و "تجريد أحاديث الموطأ" لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي المصري المتوفى سنة 911هـ، "إتحاف العابد الناسك بالمنتقى من موطأ مالك" لعمر بن أحمد بن علي الشماع الحلبي الشافعي المتوفى سنة 936هـ، ""الفتح الرحماني شرح موطأ محمد بن الحسن الشيباني" لإبراهيم بن حسين بن أحمد الحنفي المعروف بالشيخ بيري زاده مفتي مكة المتوفى سنة 1099هـ و هو شرح على الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني.×
الإمام مالك بن أنس (93-179هـ/711-795م)

 

أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري المدني (93-179هـ/711-795م) فقيه و محدِّث، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة و الجماعة، و صاحب المذهب المالكي في الفقه الإسلامي.

هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر، و اسمه نافع بن عمرو بن الحارث بن غَيْمان بن خُثَيل بن عمرو بن الحارث ذي أصبح بن مالك بن زيد بن قيس بن صيفي بن حمير الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع بن حمير بن سبأ.

وُلد الإمام مالك بالمدينة المنورة سنة 93هـ، في خلافة سليمان بن عبد الملك. و لقد رُوي أن مالكاً قال: "وُلدت سنة ثلاث و تسعين".

نشأ الإمام مالك في بيت اشتغل بعلم الحديث و استطلاع الآثار و أخبار الصحابة و فتاويهم، كما كان أخو مالك و هو النضر بن أنس ملازماً للعلماء يتلقى عليهم و يأخذ عنهم.

أمه العالية بنت شريك بن عبد الرحمن بن شريك الأزدية، و أزد من أشهر قبائل العرب القحطانية، تُنسب إلى الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فهي تلتقي مع زوجها أنس بأنهما من عرب اليمن.

جده مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري، كان من كبار التابعين و علمائهم، روى عن عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و طلحة بن عبيد الله و عائشة أم المؤمنين و أبي هريرة و حسان بن ثابت و عقيل بن أبي طالب، و هو أحد الأربعة الذين حملوا عثمان ليلاً إلى قبره و غسلوه و دفنوه. و رُوي أن عثمان أغزاه إفريقية ففتحها، و أنه كان ممن يكتب المصاحف حين جمع عثمان المصاحف، كما كان الخليفة عمر بن عبد العزيز يستشيره، و قد توفي سنة 94هـ.

أبو جده أبو عامر نافع بن عمرو الأصبحي الحميري، يُقال إنه صحابي، قال القاضي بكر بن العلاء القشيري: "إن أبا عامر جد أبي مالك رحمه الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم شهد المغازي كلها خلا بدراً، و ابنه مالك جد مالك كنيته أبو أنس من كبار التابعين، ذكره غير واحد، يَروي عن عمر و طلحة و عائشة و أبي هريرة و حسان بن ثابت رضي الله عنهم، وهو أحد الأربعة الذين حملوا عثمان رضي الله عنه ليلاً إلى قبره و كفنوه". و في رواية ثانية أن "أبا عامر نزل المدينة بعد وفاة الرسول محمد صلى الله عليه و سلم"، فهو لهذا تابعي مخضرم. و في رواية ثالثة: "أن أبا عامر لم يكن صحابياً و لم يأت المدينة المنورة، بل أتاها ابنه مالك، قال ابن عبد البر: «قدم مالك ابن أبي عامر المدينة من اليمن متظلماً من بعض ولاة بني تيم بن مرة، فعاقده و صار معهم".

حفظ الإمام مالك القرآن الكريم في صدر حياته، ثم اتجه إلى حفظ الحديث النبوي و تعلُّمِ الفقه الإسلامي، فذكر لأمه أنه يريد أن يذهب فيكتب العلم، فألبسته أحسن الثياب و عممته، ثم قالت: "اذهب فاكتب الآن"، و كانت تقول: "اذهب إلى ربيعة فتعلم علمه قبل أدبه". فجلس إلى ربيعة الرأي أول مرة، فأخذ عنه فقه الرأي و هو حدث صغير. و كان حريصاً منذ صباه على استحفاظ ما يكتب، حتى أنه بعد سماع الدرس و كتابته يتبع ظلال الأشجار يستعيد ما تلقى، و لقد رأته أخته كذلك، فذكرته لأبيها فقال لها: "يا بنية، إنه يحفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم".

أدرك الإمام مالك من الشيوخ ما لم يدركه أحد بعده، فقد أدرك من التابعين نفراً كثيراً، و أدرك من تابعيهم نفراً أكثر، فكان من أخذ عنهم تسعمئة شيخ منهم ثلاثمئة من التابعين. و من شيوخه: ابن هرمز، وهو أول شيخ له، ونافع مولى ابن عمر، و زيد بن أسلم، و ابن شهاب الزهري، و أبو الزناد، و عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، و أيوب السختياني، و ثور بن زيد الديلي، و إبراهيم ابن أبي عبلة المقدسي، و حميد الطويل، و ربيعة بن أبي عبد الرحمن، و هشام بن عروة، و يحيى بن سعد الأنصاري، و عائشة بنت سعد ابن أبي وقاص، و عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام، و أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي القرشي.

لازم فقيه المدينة المنورة ابن هرمز سبع سنين يتعلم عنده، و قد ذكر الإمام مالك ذلك فقال: "كان لي أخ في سن ابن شهاب، فألقى أبي يوماً علينا مسألة، فأصاب أخي و أخطأت، فقال لي أبي: "ألهتك الحمام عن طلب العلم!"" (و كان الإمام مالك يتلهّى بتربية الحمام في مطلع حياته) "فغضبت، و انقطعت إلى ابن هرمز سبع سنين" (و في رواية: ثماني سنين) "لم أخلطه بغيره، و كنت أجعل في كمي تمراً، و أناوله صبياناً و أقول لهم: "إن سألكم أحد عن الشيخ فقولوا مشغول"". و قال ابن هرمز يوماً لجاريته: "من بالباب؟"، فلم تر إلا مالكاً، فرجعت فقالت: "ما ثم إلا ذاك الأشقر"، فقال: "ادعيه فذلك عالم الناس"، و كان مالك قد اتخذ تياناً (وسادة) محشواً للجلوس على باب ابن هرمز يتقي به برد حجر هناك. وكان يقول: "و كنت آتي ابن هرمز بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل".

و قد لازم مالك ابن هرمز ملازمة لم يخلطه فيها بغيره سبع سنين، ثم اتجه إلى الأخذ من غيره من العلماء مع مجالسة شيخه الأول، فوجد في نافع مولى ابن عمر بغيته، فجالسه مع مجالسة ابن هرمز و أخذ عنه علماً كثيراً. قال الإمام مالك: "كنت آتي نافعاً نصف النهار، و ما تظلني الشجرة من الشمس أتحيَّن خروجه، فإذا خرج أدعه ساعة، كأني لم أره، ثم أتعرض له فأسلم عليه و أدعه، حتى إذا دخل أقول له: "كيف قال ابن عمر في كذا وكذا؟"، فيجيبني، ثم أحبس عنه، و كان فيه حدة".

كما أخذ الإمام مالك عن ابن شهاب الزهري، قال مالك: قدم علينا الزهري فأتيناه و معنا ربيعة، فحدثنا نيفاً و أربعين حديثاً، ثم أتيناه في الغد، فقال: "انظروا كتاباً حتى أحدثكم، أرأيتم ما حدثتكم به أمس؟"، قال له ربيعة: "ههنا من يرد عليك ما حدثت به أمس"، قال: "ومن هو؟"، قال: "ابن أبي عامر"، قال: "هات"، فحدثته بأربعين حديثاً منها، فقال الزهري: "ما كنت أرى أنه بقي أحد يحفظ هذا غيري". و قال له الزهري: "أنت من أوعية العلم، و إنك لنعم المستودَع للعلم".

و لقد لازم مالكاً منذ صباه الاحترامُ التامُّ للأحاديث النبوية، فكان لا يتلقاها إلا و هو في حال من الاستقرار و الهدوء توقيراً لها و حرصاً على ضبطها، و لذلك ما كان يتلقاها واقفاً، و لا يتلقاها في حال ضيق أو اضطراب، حتى لا يفوته شيء منها. كما أن مالكاً لم يكن يدخر مالاً في سبيل طلب العلم، حتى قال ابن القاسم: "أفضى بمالك طلبُ العلم إلى أن نَقض سقفَ بيته فباع خشبَه، ثم مالت عليه الدنيا من بعد".

جلوسه للدرس والإفتاء

بعد أن اكتملت دراسة مالك للآثار و الفُتيا، اتخذ له مجلساً في المسجد النبوي للدرس و الإفتاء، و لقد قال في هذا المقام و في بيان حاله عندما نزعت نفسه إلى الدرس و الإفتاء: "ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث و الفتيا جلس، حتى يشاوِر فيه أهلَ الصلاح و الفضل و الجهة من المسجد، فإن رأوه لذلك أهلاً جلس، و ما جلست حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضع لذلك". و كان مجلسُه في المسجد النبوي في المكان الذي كان عمر بن الخطاب يجلس فيه للشورى و الحكم و القضاء، و هو المكان الذي كان يوضع فيه فراش النبي صلى الله عليه و سلم إذا اعتكف. و جاء في طبقات ابن سعد: "كان مجلس مالك في مسجد رسول لله تجاه خوخة عمر بين القبر والمنبر". و كذلك فعل مالك في مسكنه، فقد كان يسكن في دار عبد الله بن مسعود، ليقتفي بذلك أثر عبد الله بن مسعود.

و قد عُرف درسُه بالسكينة و الوقار و احترام الأحاديث النبوية و إجلالها، و الابتعادَ عن لغو القول و ما لا يَحسن بمثله، و كان يرى ذلك لازماً لطالب العلم. يُروى أنه نصح بعض أولاد أخيه فقال: "تعلّم لذلك العلم الذي علمته السكينة و الحلم و الوقار"، و كان يقول: "حق على من طلب العلم أن يكون فيه وقار و سكينة و خشية، أن يكون متبعاً لآثار من مضى، و ينبغي لأهل العلم أن يخلوا أنفسهم من المزاح، و بخاصة إذا ذكروا العلم"، و كان يقول: "من آداب العالم ألا يضحك إلا تبسماً". و قد قال الواقدي في مجلس درسه: "كان مجلسه مجلس وقار و علم، و كان رجلاً مهيباً نبيلاً، ليس في مجلسه شيء من المراء و اللغط و لا رفع صوت، و إذا سُئل عن شيء فأجاب سائله لم يقل له من أين هذا".

و كان الإمام مالك يتحرز أن يخطئ في إفتائه، و كان يبتدئ إجابته بقوله: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله"، و كان يكثر من قول "لا أدري"، و كان يعقب كثيراً فتواه بقوله: "إن نظن إلا ظناً و ما نحن بمستيقنين". و لقد قال عبد الرحمن بن مهدي: "سأل رجل مالكاً عن مسألة، و ذكر أنه أُرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من المغرب، فقال له: "أخبر الذي أرسلك أن لا علم لي بها"، فقال: "و من يعلمها؟"، قال: "الذي علمه الله"". و قال معن بن عيسى: ""سمعت مالكاً يقول: "إنما أنا بشر أخطئ و أصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، و ما لم يوافق الكتاب و السنة فاتركوه". كما كان الإمام مالك ينهى عن الجدال في الدين و يقول: "المراء و الجدال في ا لدين يذهب بنور العلم من قلب العبد". و رأى قوماً يتجادلون عنده فقام و نفض رداءه و قال: "إنما أنتم في حرب".

كان درس الإمام مالك أول الأمر في المسجد، ثم صار درسُه في بيته بسبب مرضه الذي لم يكن يعلنه، فقد كان مصاباً بسلس البول، و لم يخبر بذلك إلا يوم وفاته حيث قال: "لولا أني في آخر يوم ما أخبرتكم، مرضي سلس بول، كرهت أن آتي مسجد رسول الله بغير وضوء، و كرهت أن أذكر علتي فأشكو ربي".

و يصف مطرفٌ، تلميذ الإمام مالك، حاله عندما انتقل درسه إلى بيته فيقول: "كان مالك إذا أتاه الناس خرجت إليهم الجارية، فتقول لهم: "يقول لكم الشيخ: "أتريدون الحديث أم المسائل؟"، فإن قالوا المسائل خرج إليهم فأفتاهم، و إن قالوا الحديث قال لهم: "اجلسوا"، و دخل مغتسله، فاغتسل و تطيب و لبس ثياباً جدداً، و لبس ساجة و تعمم، و تُلقى له المنصة، فيخرج إليهم قد لبس و تطيب، و عليه الخشوع، و يوضع عودٌ فلا يزال يتبخر حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم". قال عبد الله بن المبارك: "كنت عند مالك و هو يحدثنا حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم، فلدغته عقرب بست عشرة مرة و مالك يتغير لونه و يصفر و لا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم، فلما فرغ من المجلس و تفرق الناس قلت: "يا أبا عبد الله، لقد رأيت اليوم منك عجباً؟"، فقال: "نعم، إنما صبرت إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم".

تبشير النبي صلى الله عليه و سلم به

روى الإمام الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة"". و روى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "يوشك أن يضرب الرجل أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجد عالماً أعلم من عالم المدينة"". قال إسحاق بن موسى: "فبلغني عن ابن جريج أنه كان يقول: "نرى أنه مالك بن أنس"". و قال يحيى بن معين: "سمعت سفيان بن عيينة يقول: "نظن أنه مالك بن أنس"".

و قد قال الإمام جلال الدين السيوطي في معنى هذا الحديث:

قـد قـال نـبيُّ الهـدى حديثاً                       مـن خـصَّه الله بـالسكـينـة

يخـرج من شرقها وغـربٍ                       من طالبي الحكمة المبينة

         فـلا يــرَوا عــالـمـاً إمـامـاً                        أعـلـمَ من عـالـم المـديـنة           

 

تلاميذه والرواة عنه

حدَّث عن الإمام مالك عددٌ كبيرٌ من الناس، فقد حدث عنه من شيوخه: عمه أبو سهيل، و يحيى بن أبي كثير، و ابن شهاب الزهري، و يحيى بن سعيد، و يزيد بن الهاد، و زيد بن أبي أنيسة، و عمر بن محمد بن زيد، و غيرهم.

كما حدث عنه من أقرانه: أبو حنيفة، و الأوزاعي،  وحماد بن زيد، و إسماعيل بن جعفر، و سفيان بن عيينة، و عبد الله بن المبارك، و ابن علية، و عبد الرحمن بن القاسم، و عبد الرحمن بن مهدي، و عبد الله بن وهب، و الوليد بن مسلم، و يحيى القطان، و أبو داود الطيالسي، و عبد الله بن نافع الصائغ، و مروان بن محمد الطاطري، و عبد الله بن يوسف التنيسي، و عبد الله بن مسلمة القعنبي، و أبو نعيم الفضل بن دكين، و الهيثم بن جميل الأنطاكي، و هشام بن عبيد الله الرازي، و محمد بن عيسى بن الطباع، و أبو بكر و إسماعيل ابنا أبي أويس، و يحيى بن يحيى التميمي، و يحيى بن يحيى الليثي، و أبو جعفر النفيلي، و مصعب بن عبد الله الزبيري، و محمد بن معاوية النيسابوري، و محمد بن عمر الواقدي، و أبو الأحوص محمد بن حبان البغوي، و محمد بن جعفر الوركاني، و محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، و منصور بن أبي مزاحم، و مطرف بن عبد الله اليساري، و أما آخر أصحابه موتاً فهو راوي "الموطأ" أبو حذافة أحمد بن إسماعيل السهمي و قد عاش بعد مالك ثمانين عاماً.

صفته الشكلية و أخلاقه

كان الإمام مالك طويلاً جسيماً، شديد البياض إلى الشقرة، عظيم الهامة، حسن الصورة، أصلع، أعين، أشم، أزرق العينين. قال عيسى بن عمر المدني: "ما رأيت بياضاً قط أحسن من وجه مالك، و كان عظيم اللحية عريضها". و كان ربعةً من الرجال. و كان يأخذ أطراف شاربه لا يحلقه و لا يحفيه، و يرى حلق الشارب مُثلة، و يترك له سبلتين طويلتين. و لم يكن يخضب شعره، و قد ذَكر أحمد بن حنبل عن إسحاق بن عيسى الطباع قال: "رأيت مالكاً بن أنس لا يخضب فسألته عن ذلك فقال: "بلغني عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخضب".

الراجح أن مالكاً كان يعمل بالتجارة، فقد قال تلميذه ابن القاسم: "إنه كان لمالك أربعمائة دينار يتجر بها، فمنها كان قوام عيشه". كما كان الإمام مالك يَقبل هدايا الخلفاء، و لا يعتريه شك في حل أخذها، و إن كان يتعفف عن الأخذ ممن دونهم، فقد سُئل عن الأخذ من السلاطين فقال: "أما الخلفاء فلا شك، يعني أنه لا بأس به، و أما من دونهم فإن فيه شيئاً"، و يُروى أن الخليفة هارون الرشيد أجاره بثلاثة آلاف دينار، فقيل له: "يا أبا عبد الله، ثلاثة آلاف تأخذها من أمير المؤمنين!"، فقال: "لو كان إمامَ عدل فأنصف أهل المروءة لم أر به بأساً"، فهو كان يقبلها لأنها برأيه من إنصاف أهل المروءة. و كان لمالك أربعة أولاد هم: يحيى، و محمد، و حماد، و فاطمة أم أبيها أو أم البنين.

اشتُهر الإمام مالك بعلمه الغزير و قوة حفظه للحديث النبوي و تثبُّته فيه. قال الإمام مالك: "ساء حفظ الناس، لقد كنت آتي سعيد بن المسيب و عروة و القاسم و أبا سلمة و حميداً و سالماً" -وعدَّد جماعة- "فأدور عليهم، أسمع من كل واحد من الخمسين حديثاً إلى المائة، ثم أنصرف و قد حفظته كله من غير أن أخلط حديث هذا في حديث هذا".

 و كان معروفاً بالصبر و الذكاء و الهيبة و الوقار و الأخلاق الحسنة. و كان يقول: "لا يبلغ أحد ما يريد من هذا العلم حتى يضر به الفقر، و يؤثره على كل حال". و كان الإمام مالك يأخذ تلاميذه بذلك، فيحثهم على احتمال المشاق في طلب العلم بالقول و العمل. و كان يعمل في نفسه ما لا يُلزمه الناس، و كان يقول: "لا يكون العالم عالماً حتى يعمل في نفسه بما لا يفتي به الناس، يحتاط لنفسه ما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم".

اتصف الإمام مالك بقوة الفراسة، و لقد قال الإمام الشافعي في فراسته: "لما سِرتُ إلى المدينة و لقيت مالكاً و سمع كلامي، نظر إلي ساعةً، و كانت له فراسة، ثم قال لي: "ما اسمك؟"، قلت: "محمد"، قال: "يا محمد، اتق الله، و اجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك الشأن من الشأن". و لقد قال أحد تلاميذه: "كان في مالك فراسةٌ لا تخطئ".

كان الإمام مالك ذا هيبة و وقار، يهابه تلاميذه، حتى أن الرجلَ ليدخل إلى مجلسه فيُلقي السلام عليهم فلا يرُدُّ عليه أحد إلا همهمة و إشارة، و يشيرون إليه ألا يتكلم مهابةً و إجلالاً. كما كان يهابه الحكام، حتى إنهم ليحسُّون بالصغر في حضرته، و يهابه أولاد الخلفاء. رُوي أنه كان في مجلسه مع أبي جعفر المنصور، و إذا صبي يخرج ثم يرجع، فقال أبو جعفر: "أتدري من هذا؟"، قال: "لا"، قال: "هذا ابني، و إنما يفزع من شيبتك". بل كان يهابه الخلفاء أنفسهم، فقد رُوي أن الخليفة المهدي دعاه، و قد ازدحم الناس بمجلسه، و لم يبق موضع لجالس، حتى إذا حضر مالك تنحى الناس له حتى وصل إلى الخليفة، فتنحى له عن بعض مجلسه، فرفع إحدى رِجليه ليفسح لمالك المجلس. قال ابن الماجشون: "دخلت على أمير المؤمنين المهدي، فما كان بيني و بينه إلا خادمه، فما هبته هيبتي مالكاً"، و قال سعيد بن أبي مريم: "لقد كانت هيبته أشد من هيبة السلطان".

وكان الإمام مالك يُعنى بلباسه عنايةً تامةً، و يَرى بذلك إعظامَ العلم و رفعةَ العالم، و يقول إن مروءة العالم أن يختار الثوبَ الحسنَ يرتديه و يظهر به، و أنه ينبغي ألا تراه العيون إلا بكامل اللباس حتى العمامة الجيدة. و قد كان يلبس أجود اللباس و أغلاه و أجمله. قال الزبيري: "كان مالك يلبس الثياب العدنية الجياد، و الخراسانية و المصرية المرتفعة البِيض، و يتطيب بطيب جيد ويقول: "ما أُحب لأحد أنعم الله عليه إلا أن يُرى أثرُ نعمته عليه". و كان يقول: "أحب للقارئ أن يكون أبيض الثياب".

محنته

كان الإمام مالك يبتعد عن الثورات و التحريض عليها، و عن الفتن و الخوض فيها، و مع ذلك فقد نزلت به محنة سنة 146هـ على يد والي المدينة جعفر بن سليمان، في العصر العباسي في عهد أبي جعفر المنصور، و كان ذلك من غير علم أبي جعفر المنصور. و قد اختلف في سببها على أن أشهرها أنه كان يحدث بحديث "ليس على مستكره طلاق"، فاتخذ مروجو الفتن من هذا الحديث حجةً لبطلان بيعة أبي جعفر المنصور، و ذاع هذا و شاع في وقت خروج محمد بن عبد الله بن حسن النفس الزكية بالمدينة، فنُهي عن أن يحدث بهذا الحديث، ثم دُس إليه من يسأله عنه، فحدث به على رؤوس الناس، فضُرب بالسياط، و مُدت يده حتى انخلعت كتفاه.

و عندما رأى أهل المدينة فقيهها و إمامها ينزل به ذلك النكال سخطوا على بني العباس و ولاتهم، و خصوصاً أنه لزم درسه بعد المحنة لا يحرض و لا يدعو إلى فساد، فكان ذلك مما زادهم نقمة على الحاكمين، و جعل الحكام يحسون بمرارة ما فعلوا. لذلك، عندما جاء أبو جعفر المنصور إلى الحجاز حاجاً، أرسل إلى مالك يعتذر إليه. قال الإمام مالك: "لما دخلت على أبي جعفر، و قد عهد إلي أن آتيه في الموسم، قال لي: "و الله الذي لا إله إلا هو ما أمرتُ بالذي كان و لا علمتُه، إنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنتَ بين أظهرهم، و إني أخالك أماناً لهم من عذاب، و لقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة، فإنهم أسرع الناس إلى الفتن، و قد أمرت بعدو الله أن يؤتى به من المدينة إلى العراق على قتب، و أمرت بضيق محبسه و الاستبلاغ في امتهانه، و لا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما لك منه"، فقلت: "عافى الله أمير المؤمنين و أكرم مثواه، قد عفوت عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه و سلم و قرابته منك"، قال: "فعفا الله عنك و وصلك".

وفاته

مرض الإمام مالك اثنين وعشرين يوماً، ثم جاءته منيته، وأكثر الرواة على أنه مات سنة 179هـ، و قد قال فيه القاضي عياض: "إنه الصحيح الذي عليه الجمهور"، و اختلفوا في أي وقت منها، و الأكثرون على أنه مات في الليلة الرابعة عشرة من ربيع الثاني منها. وفي رواية عن بكر بن سليم الصراف قال: "دخلنا على مالك في العشية التي قبض فيها، فقلنا: "يا أبا عبد الله كيف تجدك؟"، قال: "ما أدري ما أقول لكم، ألا إنكم ستعاينون غداً من عفو الله ما لم يكن لكم في حساب""، قال: "ما برحنا حتى أغمضناه، و توفي رحمه الله يوم الأحد لعشر خلون من ربيع الأول سنة تسع و سبعين و مئة". و صلى عليه عبد الله بن محمد بن إبراهيم أميرُ المدينة، و حضر جنازته ماشياً، وكان أحدَ من حمل نعشَه. و كانت وصية الإمام مالك أن يُكفَّن في ثياب بيض، و يُصلى عليه بموضع الجنائز، فنُفِّذت وصيته، و دُفن بالبقيع.

ثناء بعض العلماء عليه

قال الإمام الشافعي: "إذا ذُكر العلماء فمالك النجم، و مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين". و قال: "إذا جاء الأثر فمالك النجم". و قال: "مالك و ابن عيينة القرينان، لولاهما لذهب علم الحجاز". و قال: "إذا جاءك الحديث عن مالك فشُدَّ يدك به". و قال: "و كان مالك إذا شك في بعض الحديث طرحه كله".

و رُوي عن عبد السلام بن عاصم أنه قال: "قلت لأحمد بن حنبل: "الرجل يريد حفظ الحديث، فحديث من يحفظ؟"، قال: "حديث مالك بن أنس"، قلت: "فالرجل يريد أن ينظر في الرأي، فبرأي من؟"، قال: "فرأي مالك بن أنس". و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "قلت لأبي: "من أثبت أصحاب الزهري؟"، قال: "مالك أثبت في كل شيء".

و قال الإمام النووي: "أجمعت طوائف العلماء على إمامة مالك و جلالته، و عظيم سيادته و تبجيله و توقيره، و الإذعان له في الحفظ و التثبت، و تعظيم حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه".

و قال الإمام الذهبي: "قد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لأحد غيره، أحدها طول العمر و الرواية، ثانيها الذهن الثاقب و الفهم و سعة العلم، ثالثها اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية، رابعها إجماع الأئمة على دينه و عدالته و اتباعه للسنن، خامسها تقدمه في الفقه و الفتوى و صحة قواعده".

و أخرج البخاري عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: "مالك أمير المؤمنين في الحديث"، و"أخرج الغافقي عن أبي قلابة أنه قال: "كان مالك أحفظ أهل زمانه"، و"أخرج عن ابن مهدي أنه قال: "ما رأيت أعقل من مالك".

كما أثنى الشيخ أبو زكريا السلماسي على الإمام مالك فقال:

   "مالك بن أنس: أما مالك، فإنه لممالك الفضائل مالك، و لمسالك التقوى و الورع سالك، إمام دار الهجرة بالاتفاق، و مفتي الحجاز بالإطباق، فقيه الأمة و سيد الأئمة، زكي الطبع و الهمة، أول من صنف كتاباً في الإسلام، جمع فيه شرائع الحلال و الحرام، و نظم عقود الشرع فيه أحسن نظام، بين فيه عيون الدلائل و فنون المسائل في الأحكام. فغدا كتابه غرةً في جبين الدين، و درةً في تاج الفضل و اليقين، و سار في البدو و الحضر، مسير الشمس و القمر، و صار حجة على الأنام، و قدوة يأتم بها أولو الأحلام. فمالك جمُّ المناقب و الفضائل، يمُّ المواهب و الفواضل، اتسع في الفضل مجاله، و فاض في الأفضال سجاله، و اتسق في التقوى قوله و فعاله. و أصبح قريع عصره، و فريد دهره و مِصره، علماً سار بذكره الركبان، و تعطر بنشره الزمان، جمع بين فصاحة البيان و سماحة البنان. نظم من جواهر الكلام عقداً يزان بمثله نحرُ الإسلام، و صاغ من تبر الشريعة تاجاً، و فتح للسنة البيضاء رتاجاً. و قسم ميراث النبوة بين الأمة الهادية، و بَرَّد بماء الحياة عليل الأنفس الصادية. خُص بالمناقب الشريفة المبينة و المراتب المنيفة المتينة، و شرف بقول الرسول "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة". كان  مجلسه محفوفاً بالهيبة و السلطان، و مكنوناً بالحجة و البرهان، كما قال فيه عبد الله بن المبارك إمام خراسان، رحمه الله.

يـأبى الـجوابَ فـما يكـلم هـيـبةً                               و السائـلـون نواكـس الأذقانِ

أدب الوقار و عز سلطان التقى                               فهو المطاع و ليس ذا سلطانِ

و قد أثنى عليه كثيرٌ من العلماء منهم الإمام الشافعي بقوله: "إذا ذُكر العلماء فمالك النجم، و مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين". و يُعدُّ كتابه "الموطأ" من أوائل كتب الحديث النبوي و أشهرها و أصحِّها، حتى قال فيه الإمام الشافعي: "ما بعد كتاب الله تعالى كتابٌ أكثرُ صواباً من موطأ مالك". و قد رثا الإمامَ مالك كثيرٌ من الناس، منهم أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج بقوله:

سقى الله جدثاً بالبقيع لمالك                      من المُزْن مرعادَ السحائب مبراقُ

إمامٌ موطاه الذي طبَّقت به                       أقـالـيـمُ فـي الـدنـيا فـساحٌ و آفـاقُ

أقـام بـه شـرعَ النبي محمدٍ                       لـه حـذرٌ مـن أن يُـضام و إشفاقُ

له سندٌ عالٍ صحيحٌ وهيبةٌ                        فـللـكـل منه حـيـن يرويه إطراقُ

وأصحابه بالصدق تعلم كلَّهم                      و إنـهـم إن أنـت سـاءلـت حُـذَّاقُ

ولو لم يكن إلا ابنُ إدريس وحده                   كـفـاه عـلى أن السـعـادة أرزاقُ

مؤلفات غير الموطأ

لم يُعرف الإمامُ مالكٌ بكتاب أكثر شهرة من كتابه "الموطأ"، و كثير من الناس لا يعلم له غيره، و الواقع أن له تآليف غير الموطأ. قال ابن فرحون في كتابه "الديباج المذهب": "فمن أشهرها -غير الموطأ- رسالته في القدر، و الرد على القدرية، إلى ابن وهب كما يقول القاضي عياض، ومنها: كتابه في النجوم و حساب مدار الزمان و منازل القمر، و هو كتاب جيد جداً، وقد اعتمد عليه الناس في هذا الباب، و جعلوه أصلاً".

و من كتبه أيضاً: رسالته في الأقضية كتب بها إلى بعض القضاة (عشرة أجزاء)، و من ذلك: رسالته المشهورة في الفتوى أرسلها إلى أبي غسان محمد بن مطرف، و من ذلك: رسالته المشهورة إلى هارون الرشيد في الآداب و المواعظ، و من ذلك: كتابه في التفسير لغريب القرآن الذي يرويه عنه خالد بن عبد الرحمن المخزومي. و قد رُوي عن أبي العباس السراج النيسابوري أنه قال: "هذه سبعون ألف مسألة لمالك" و أشار إلى كتب منضَّدة عنده كتبها، و قد نُسب إلى مالك كتاب يُسمى "السِّيَر" من رواية القاسم عنه.

 من أقواله المأثورة و حِكَمه

ورد عن الإمام مالك كثيرٌ من الأقوال المأثورة و الحكم المشهورة في العلم و العمل. و مما جاء عنه في العلم و آداب المتعلِّمين قوله: - "ليس العلم بكثرة الرواية، و إنما العلم نور يضعه الله في القلوب"،

- و قال أيضاً: "طلب العلم حَسَنٌ لمن رُزق خيرُه، و هو قسم من الله، و لكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه"،

- و قال: "العلم نَفورٌ لا يأنس إلا بقلب تقي خاشع"،

- و قال: "ينبغي للرجل إذا خُوِّل علماً و صار رأساً يشار إليه بالأصابع، أن يضع التراب على رأسه، و يمقت نفسه إذا خلا بها، و لا يفرح بالرياسة، فإنه إذا اضطجع في قبره و توسد التراب ساءه ذلك كله"،

- و قال لابن وهب: "اتق الله و اقتصر على علمك، فإنه لم يقتصر أحد على علمه إلا نفع و انتفع، فإن كنت تريد بما طلبت ما عند الله فقد أصبت ما تنتفع به، و إن كنت تريد بما تعلمت الدنيا فليس في يدك شيء".

كما جاء عن الإمام مالك أقوالٌ في أحوال القلوب و السلوك و تربية النفس، منها:

- قوله: "من أحب أن تُفتح له فُرجةٌ في قلبه فليكن عمله في السر أفضل منه في العلانية"،

- و قال: "الزهد في الدنيا طِيب المكسب و قِصَر الأمل"،

- و قال: "نقاء الثوب و حسن الهمة و إظهار المروءة جزء من بضع و أربعين جزءاً من النبوة"،

- و قال: "إن كان بغيُك منها ما يكفيك، فأقَلُّ عيشها يغنيك، و ما قل و كفى خير مما كثر و ألهى"،

- و قال خالد بن حميد: سمعته يقول: "عليك بمجالسة من يزيد في علمك قولُه، و يدعوك إلى الآخرة فعلُه، و إياك و مجالسة من يعلِّلُك قولُه، و يعيبك دينُه، و يدعوك إلى الدنيا فعلُه".

و كان الإمام مالك يَكره كثرةَ الكلام و يعيبه، و يقول: "لا يوجد إلا في النساء و الضعفاء".

انتشار المذهب المالكي عبر التاريخ في مصر و إفريقية والأندلس و المغرب الأقصى

نشأ المذهب المالكي بالمدينة المنورة موطن الإمام مالك، ثم انتشر في الحجاز و غلب عليه. ثم انتشر انتشاراً واسعاً في إفريقية من مصر إلى المغرب ثم الأندلس،  وما زال المغرب باستثناء مصر ليس له من مذهب إلا المذهب المالكي، و بقي قليل من مذهب داود الظاهري في الأندلس. يقول القاضي عياض: "غلب مذهب مالك على الحجاز و البصرة و مصر و ما والاها من بلاد إفريقية، و الأندلس و صقلية و المغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان إلى و قتنا هذا، و ظهر ببغداد ظهوراً كثيراً، و ضعف بها بعد أربعمائة سنة، و ظهر بنيسابور، و كان بها و بغيرها أئمة و مدرسون".

كان أول من أدخل المذهب المالكي إلى مصر عثمان بن الحكم الجذامي المتوفى سنة 163هـ، و قيل إن أول من قدم مصر بمسائل الإمام مالك عثمان بن الحكم و عبد الرحيم بن خالد بن يزيد بن يحيى. ثم نشره بها عبد الرحمن بن القاسم، و كان بمصر كثيرٌ من علماء المذهب المالكي، و قد صار المذهبُ المالكي بفضل هؤلاء العلماء الغالبَ على الديار المصرية.

ثم عاد الانتعاش إلى المذهب المالكي في عصر الدولة الأيوبية، وبنيت لفقهائه المدارس، ثم عُمل به في القضاء استقلالاً لمَّا أحدث الظاهر بيبرس في الدولة التركية البحرية "القضاة الأربعة"، ولم يزل منتشراً بمصر إلى الآن معادلاً للشافعي، وأكثر انتشاره في الصعيد.

و لما تولى المعز بن باديس على أهل إفريقية سنة 407هـ حمل أهلها و أهل ما والاها من بلاد المغرب على المذهب المالكي، و هو الغالب على هذه البلاد إلى اليوم. و قد ذكر الفاسي في كتابه "العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين": "أن المغاربة كلهم مالكية، إلا النادر ممن ينتحلون الأثر".

و رُوي أن أهل الأندلس التزموا مذهب الأوزاعي و بقي بها إلى زمن الأمير هشام الرضا حين قدِم عليهم أصحاب الطبقة الأولى ممن لقوا الإمام مالكاً، كزياد بن عبد الرحمن اللخمي، و الغازي بن قيس، و قرعوس بن العباس، و نحوهم، فنشروا مذهبه، و غلب عليها المذهب المالكي بعد سنة 200هـ، و أخذ الأميرُ هشامٌ الناسَ به، فالتزموه و حملوا عليه بالسيف.

و لما تولى علي بن يوسف بن تاشفين على المغرب الأقصى و الأندلس اشتد إيثاره لأهل الفقه و الدين، فكان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، و ألزم القضاة بأن لا يتبوَّأ حكومةً في صغير الأمور و كبيرها إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فعظم أمر الفقهاء، و لم يكن يُقرب منه و يحظى عنده إلا من علم مذهب مالك، فنفقت في زمنه كتب المذهب، و عمل بمقتضاها و نبذ ما سواها، و هكذا انتشر المذهب بحمل هشام بن عبد الرحمن عليه بالسيف كما تقدم، و ابن تاشفين حمل عليه بتقريبه من حفظ فروع المذهب المالكي، فانتشر بذلك، حتى قال ابن حزم: "مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرئاسة والسلطان: الحنفي بالمشرق و المالكي بالأندلس".×

«فتاوي الإمام النووي»

المُسمَّاةِ بـ«المَسَائِل المنْثورَةِ»
الشيخ الإمام محي الدين النووي (631-676هـ/1233-1277م)

 كتاب في الفقه الشافعي، جمع فيه فتاوى الشيخ الجليل يحيى ابن شرف النووي رحمه الله و هي مرتبة حسب أبواب الفقه من العبادات و البيوع و غيرها و أورد المؤلف بعض المسائل التي لا تتعلق بالفقه في آخرالكتاب، و كلها من المسائل التي سئل عنها الإمام و أفتى بها على المذهب الشافعي×

«الشيخ محي الدين النووي»

(631-676هـ/1233-1277م)

 

هو مُحدّث و فقيه و لغوي، اشتهر بكتبه و تصانيفه العديدة في الفقه و الحديث و اللغة و التراجم، كـ "رياض الصالحين" و "الأربعين النووية" و "منهاج الطالبين" و "الروضة".

و يُلقب النووي بشيخ الشافعية، فإذا أُطلق لفظ "الشيخين" عند الشافعية أُريد بهما النووي و أبو القاسم الرافعي القزويني.

هو أبو زكريا يحيى بن الشيخ أبي يحيى شرف بن مُرِّي بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حِزام الحزامي النووي المشهور باسم "النووي"، كان هناك من يزعم أن نسبته "الحزامي" إلى الصحابي حزام بن خويلد، وقد صحح ذلك النووي نفسه، فقد ذكر أن بعض أجداده كان يزعم أنها نسبة إلى حزام أبي حكيم الصحابي، قال: «وهو غلط».

و لقبه بمحيي الدين، فكان يكره أن يُلقب به تواضعاً، أو لأن الدين حي ثابت دائم غير محتاج إلى من يحييه، حتى يكون حجة قائمة على من أهمله أو نبذه، قال أبو العباس الإشبيلي: وصح عنه أنه قال: «لا أجعل في حل من لقبني محيي الدين».

أما أبوه فهو: شرف بن مُرِّي، كان دُكّانياً بنوى، أي كان له دُكّان يبيع فيها ويشتري، ووصفه تلميذ النووي علاء الدين بن العطار بقوله: "الشيخ الزاهد الورع ولي الله"، وقال الذهبي: "وكان شيخاً مباركاً"، ولما مات سنة 685هـ صُلّي عليه صلاة الغائب، وهذا يدل على شهرة صلاحه، وقد عاش بعد وفاة ابنه تسع سنين وقد جاوز السبعين.

و قد عرفت بلده به، فما ينطلق اسمه على أفواه علماء الفقه والحديث ولا كنيته ولقبه، وإنما تنطلق نسبته فيقولون: "النووي" أو "النواوي"، وكان هو يكتبها بخطه: "النووي". وقد قال الشاعر أبو حفص بن الوردي في بلدة نوى والنووي:

لُقّيتِ خيراً يا نوى                   وحُرستِ من ألم النوى

فلقد نشا بكِ زاهدٌ                     في العلم أخلصَ ما نوى

وعلى عداه فضله                    فضلَ الحبوب على النوى

ونوى كانت في عصر النووي قاعدة الجولان من أرض حوران من أعمال دمشق، وقد نزل "حزام" جد النووي الأعلى فيها على عادة العرب، فأقام بها وصارت له ذرية كثيرة.

ولد الإمام النووي في نوى في العُشر الأوسط من المحرم (وقيل في العُشر الأول) سنة 631هـ، وعاش في كنف أبيه ورعايته، ولما بلغ النووي من العمر سبع سنين، كان نائماً ليلة السابع والعشرين من رمضان بجانب والده، فانتبه نحو نصف الليل، يقول والده: وأيقظني، وقال: "يا أبتي، ما هذا الضوء الذي قد ملأ الدار؟" فاستيقظ أهله جميعاً فلم نرَ كلنا شيئاً، قال والده: "فعرفت أنها ليلة القدر".

 ولما بلغ عشر سنين جعله أبوه في دكان، "و كان أبوه في دنياه مستور الحال، مباركاً له في رزقه، فنشأ النووي في ستر و خير و بقي يتعيش في الدكان لأبيه مدةً" كما يقول الذهبي، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن تعلم القرآن الكريم و حفظه.

و في سنة نيف و أربعين و ستمائة مرّ بقرية نوى الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي، فرأى النووي و هو ابن عشر سنين، و الصبيان يُكرهونه على اللعب معهم، و هو يهرب منهم و يبكي لإكراههم، و يقرأ القرآن في تلك الحال. يقول الشيخ ياسين: "فوقع في قلبي محبته، فأتيت الذي يُقرئه القرآن فوصيته به، وقلت له: "هذا الصبي يُرجى أن يكون أعلم أهل زمانه و أزهدهم، و ينتفع الناس به"، فقال لي: "أمنجم أنت؟" فقلت: "لا، و"إنما أنطقني الله بذلك"، فذكر ذلك لوالده، فحرص عليه إلى أن ختم القرآن، و"قد ناهز الاحتلام".

و مكث النووي في بلده نوى حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره، ثم ارتحل إلى دمشق سنة 649هـ، ، إذ قدم به والده أبو يحيى. و أول من لقيه النووي من العلماء خطيب الجامع الأموي و إمامه الشيخ جمال الدين عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي الربَعي الدمشقي (المتوفى عام 689هـ)، فأخذه إلى حلقة مفتي الشام تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري المعروف بابن الفركاح فلازمه و تعلم منه.

و يقول الذهبي: "و ضُرب به المثل في إكبابه على طلب العلم ليلاً و نهاراً، و هجره النوم إلا عن غلبة، و ضبط أوقاته بلزوم الدرس أو الكتابة أو المطالعة أو التردد على الشيوخ". قال النووي: "و بقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض".

بعد نحو سنتين من قدوم النووي إلى دمشق، صحبه أبوه إلى الحج، يقول النووي: "فلما كانت سنة إحدى و خمسين (أي 651هـ) حججت مع والدي، و كانت وقفة جمعة، و كان رحيلنا من أول رجب"، قال: "فأقمت بمدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم  نحواً من شهر ونصف".

 و قال ابن العطار: "قال لي والده رحمه الله: "لما توجهنا من نوى للرحيل أخذته الحُمى فلم تفارقه إلى يوم عرفة"، قال: "و لم يتأوّه قط، فلما قضينا المناسك و وصلنا إلى نوى، و نزل إلى دمشق، صبّ الله عليه العلم صباً، و لم يزل يشتغل بالعلم و يقتفي آثار شيخه المذكور (يقصد الشيخ المراكشي) في العبادة من الصلاة و صيام الدهر و الزهد و الورع و عدم إضاعة شيء من أوقاته إلى أن توفي رحمه الله".

و ذكر قطب الدين اليونيني أنه كان لا يضيع له وقت في ليل و لا نهار إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى إنه في ذهابه في الطريق و إيابه يشتغل في تكرار محفوظة أو مطالعة، و إنه بقي على التحصيل على هذا الوجه ست سنين.

و حكى بدر الدين بن جماعة أنه سأله عن نومه، فقال: "إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة و أنتبه". و يقول النووي في مقدمة كتابه "روضة الطالبين و عمدة المفتين": "فإن الاشتغال بالعلم من أفضل القرب و أجل الطاعات، و أهم أنواع الخير و آكد العبادات، و أولى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات، و شمَّر في إدراكه و التمكن فيه أصحاب الأنفس الزكيات، و بادر إلى الاهتمام به المسارعون إلى المكرمات، و سارع إلى التحلي به مستبقو الخيرات، و قد تظاهر على ما ذكرته جمل من آيات القرآن الكريمات، و الأحاديث الصحيحة النبوية المشهورات، و لا ضرورة إلى الإطناب بذكرها هنا لكونها من الواضحات الجليات".

حفظ النووي "التنبيه" لأبي إسحاق الشيرازي في نحو أربعة أشهر و نصف، ثم حفظ ربع العبادات من "المهذب" لأبي إسحاق أيضاً في باقي السنة، و عَرَض حفظه لكتاب "التنبيه" على محمد بن الحسين بن رزين قاضي القضاة بالديار المصرية، و ذلك سنة 650هـ.

ثم إنه كان في أول طلبه للعلم يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً و تصحيحاً: درسين في "الوسيط"، و ثالثاً في "المهذب"، و درساً في الجمع بين "الصحيحين"، و خامساً في "صحيح مسلم"، و درساً في "اللُّمَع" لابن جني في النحو، و درساً في "إصلاح المنطق" لابن السكيت في اللغة العربية، و درساً في التصريف، و درساً في أصول الفقه تارة في "اللمع" لأبي إسحاق الشيرازي و تارة في "المنتخب" لفخر الدين الرازي، و درساً في أسماء الرجال، و درساً في أصول الدين. قال النووي: "و كنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل، و إيضاح عبارة، و ضبط لغة، و بارك الله لي في وقتي و اشتغالي و أعانني عليه".

أخذ النووي الفقه الشافعي عن كبار علماء عصره، حتى كان عَلَم عصره في حفظه للمذهب، و إتقانه لأقوال علمائه، و أعرفهم بعلم الخلاف. يقول عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي في "طبقاته": "و هو (أي النووي) محرر المذهب و مهذبه، و منقحه و مرتبه، سار في الآفاق ذكره، و علا في العالم محله و قدره، صاحب التصانيف المشهورة المباركة النافعة". و يقول ابن كثير عنه: "شيخ المذهب، و كبير الفقهاء في زمانه". و يقول الذهبي: "كان رأساً في معرفة المذهب". و يقول قاضي صفد محمد بن عبد الرحمن العثماني عن النووي: "شيخ الإسلام، بركة الطائفة الشافعية، محيي المذهب و منقحه، و من استقر العمل بين الفقهاء فيه على ما يرجحه". و يقول أبو العباس شهاب الدين بن الهائم في مقدمة "البحر العجاج شرح المنهاج": "الإمام العلامة الحافظ، الفقيه النبيل، محرر المذهب و مهذبه، و ضابطه و مرتبه". و يقول تلميذه ابن العطار: "كان حافظاً للمذهب الشافعي و قواعده و أصوله و فروعه، و مذاهب الصحابة و التابعين، و اختلاف العلماء و وفاقهم و إجماعهم، و ما اشتهر من ذلك جميعه و ما هُجر، سالكاً في كلها طريقة السلف".

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: "و كان من سعة علمه عديم النظير، لا يرى الجدال، و لا تعجبه المبالغة في البحث، و يتأذى ممن يجادل و يعرض عنه". و قال في موضع آخر: "كان لا يتعانى لغط الفقهاء و عياطَهم (أو غياظَهم) في البحث بل يتكلم بتؤدة و وقار".

يقول الذهبي: "مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه و العمل بدقائق الورع و المراقبة، و تصفية النفس من الشوائب، و محقها من أغراضها، كان حافظاً للحديث و فنونه و رجاله و صحيحه و عليله، رأساً في معرفة المذهب".

و يقول ابن العطار: "... حافظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم، عارفاً بأنواعه كلها، من صحيحه و سقيمه و غريب ألفاظه و صحيح معانيه و استنباط فقهه...، سمع "البخاري" و "مسلماً" و "سنن" أبي داود و الترمذي، و سمع "النسائي" بقراءته، و "موطأ" مالك، و "مسند" الشافعي، و "مسند" أحمد بن حنبل، و الدارمي و أبي عوانة الأسفراييني و أبي يعلى الموصلي، و "سنن" ابن ماجة و الدارقطني و البيهقي، و "شرح السنة" للبغوي، و "معالم التنزيل" له في التفسير، و "كتاب الأنساب" للزبير بن بكار، و "الخطب النباتية"، و "رسالة" القشيري، و "عمل اليوم و الليلة" لابن السني، و "كتاب آداب السامع و الراوي" للخطيب، و أجزاء كثيرة غير ذلك". يقول ابن العطار: "نقلت ذلك جميعه من خط الشيخ رحمه الله".

و يقول الذهبي أيضا: "وهو (أي النووي) سيد هذه الطبقة".

يقول النووي في معرض ذكر شيوخه في الفقه وتسلسلهم إلى إمام مذهبه الإمام الشافعي ثم إلى النبي محمد: "فأما أنا فأخذت الفقه قراءة وتصحيحاً وسماعاً وشرحاً وتعليقاً عن جماعات، أولهم شيخي الإمام المتفق على علمه و زهده، و ورعه و كثرة عبادته، و عظم فضله و تميزه في ذلك على أشكاله، أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي ثم المقدسي رضي الله عنه و أرضاه، و جمع بيني و بينه و بين سائر أحبابنا في دار كرامته مع من اصطفاه. ثم شيخنا أبو محمد عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن إبراهيم بن موسى المقدسي ثم الدمشقي، الإمام العارف الزاهد العابد الورع المتقن، مفتي دمشق في وقته رحمه الله. ثم شيخنا أبو حفص عمر بن أسعد بن أبي غالب الربعي الإربلي الإمام المتقن رضي الله عنه. ثم شيخنا أبو الحسن سلّار بن الحسن الإربلي ثم الحلبي ثم الدمشقي، المجمع على إمامته و جلالته و تقدمه في علم المذهب على أهل عصره بهذه النواحي رضي الله عنه".

كما كان للإمام النووي تلاميذ كثر، قال ابن العطار: "و سمع منه خلق كثير، من العلماء و الحفاظ و الصدور الرؤساء، و تخرج به خلق كثير من الفقهاء، و سار علمُه و فتاويه في الآفاق، و وقع على دينه و علمه و زهده و ورعه و معرفته و كرامته الوِفاق". و قال الذهبي: "و حدّث عنه ابن أبي الفتح، و المزي و ابن العطار"، كما أخذ عنه المحدث أبو العباس أحمد بن فرح الإشبيلي، كان له ميعاد عليه يوم الثلاثاء و السبت، شرح في أحدهما "صحيح البخاري" وفي الآخر "صحيح مسلم". و منهم أيضاً: الرشيد إسماعيل بن المعلم الحنفي، و أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح الحنبلي، و أبو الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله المصري ثم الدمشقي، و غيرهم كثير".

كان النووي كغالبية علماء الشافعية يعتقد بعقيدة الأشاعرة من أهل السنة و الجماعة، إذ أن كتابه "شرح صحيح مسلم" فيه الكثير من العقائد على أصول أهل السنة الأشاعرة، و قد صرح اليافعي و تاج الدين السبكي أنه أشعري. و قال الذهبي في تاريخه: "إن مذهبه في الصفات السمعية السكوت، و إمرارها كما جاءت، و ربما تأول قليلاً في شرح مسلم كذا"، قال: "و التأويل كثير في كلامه".

و للإمام النووي مؤلف في التوحيد، و هي رسالة سماها "المقاصد" بين فيها سبعة مقاصد و خاتمة، المقصد الأول في "بيان عقائد الإسلام و أصول الأحكام"، و مما ذكر فيه قوله: "أول واجب على المكلف معرفة الله تعالى، و هي أن تؤمن بأن الله تعالى موجود ليس بمعدوم، قديم ليس بحادث، باقٍ لا يطرأ عليه العدم، مخالف للحوادث لا شيء يُماثله، قائم بنفسه، لا يحتاج إلى محل و لا مخصص، واحد لا مشارك له في ذاته و لا في صفاته و لا في أفعاله، له القدرة و الإرادة، و العلم و الحياة، و السمع و البصر و الكلام، فهو القادر، المريد، العالم، الحي، السميع، البصير، المتكلم. أرسل بفضله الرسل، و تولاهم بعصمته إياهم عما لا يليق بهم، فهم معصومون من الصغائر و الكبائر قبل النبوة و بعدها، منزهون عن كل مُنفِّر طبعاً كالجذام و العمى، يأكلون و يشربون و ينكحون، و هم أفضل الخلق على الإطلاق، أو تفصيل في الملائكة. و أعلى الكل مَن ختم الله به النبوة، و نسخ بشرعه الشرائع، نبينا محمد صلى الله عليه و سلم. و أصحابه خير القرون، و أفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. و نؤمن بجميع ما أُخبرنا به على لسان نبينا محمد، كالملائكة، و الكتب السماوية، و السؤال، و البعث، و الحشر، و هول الموقف، و أخذ الصُحُف، و الوزن و الميزان، و الصراط، و الشفاعة، و الجنة، و النار، و كل ما عُلم من الدين بالضرورة فالإيمان به واجب، والجاحد له كافر..."

و كان النووي إماماً في اللغة، و يدل كتاباه "تحرير التنبيه" و "تهذيب الأسماء و اللغات" على تمكنه بعلم اللغة تمكناً قل نظيره في نظرائه في عصره. يقول ابن قاضي شهبة في كتابه "طبقات النحاة و اللغويين": "أبو زكريا النووي الفقيه، الحافظ اللغوي، شيخ الإسلام، صاحب التصانيف المشهورة، كان إماماً في اللغة و النحو، قرأ ذلك على الشيخ جمال الدين بن مالك، و نقل عنه في تصانيفه، و صنف "تهذيب الأسماء و اللغات"، و تركه مسودّة، و هو يدل على تبحره في علم اللغة، و كذلك كتابه "التحرير على كتاب التنبيه".

قال الإمام النووي: "و خطر لي الاشتغال بعلم الطب، فاشتريت "القانون" (لابن سينا) و عزمت على الاشتغال فيه، فأظلم علي قلبي، و بقيت أياماً لا أقدر على الاشتغال بشيء، ففكرت في أمري: "من أين دخل علي الداخل؟"، فألهمني الله أن الاشتغال بالطب سببه، فبعت في الحال الكتاب المذكور، و أخرجت من بيتي كل ما يتعلق بعلم الطب، فاستنار قلبي و رجع إلي حالي، و عدت لما كنت عليه أولاً".

وبقي النووي في دمشق نحواً من ثمان وعشرين سنة، أمضاها كلها في بيت صغير في المدرسة الرواحية، يتعلّم و يُعلّم و يُؤلف الكتب، و تولى رئاسة دار الحديث الأشرفية، إلى أن وافته المنية سنة 676هـ.×

«مختصر خليل»

خليل بن إسحاق (تـ 776هـ)

 

كتاب "مختصر العلامة خليل" من أمهات الفقه المالكي، غني بفقه الفروع، و هو من أشهر المختصرات التي وضعت في فروع الفقه المالكي إن لم يكن أشهرها على الإطلاق. ألفه خليل بن إسحاق، و قد جمع فيه خلاصة فقه المذهب المالكي بطريقة مختصرة جداً، و يعتبر هذا الكتاب و شروحه، المعتمد في نقل أرجح الأقوال، التي تم اعتمادها في الفقه المالكي.

و منذ أن ألف الشيخ خليل مختصره الفقهي، و العلماء مقبلون عليه شرحا و تعليقا، توضيحا لألفاظه و فكا لألغازه و رموزه، حتى نيفت شروحه على المائة شرح. إلا أن واسطة عقدها و مصباح نورها هو كتاب "مواهب الجليل لشرح مختصر خليل" للعلامة الفقيه أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المغربي الشهير بالحطاب (ت954هـ).

كما أن شرح الشيخ العلامة أحمد الدردير العدوي (تـ 1201 هـ) المسمى "الشرح الكبير" هو عمدة الفقه المالكي، حيث أورد فيه خلاصة ما ذكره الأجهوري و الزرقاني، و اقتصر فيه على الراجح من الأقوال.

و حاشية للشيخ محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي (المتوفى: 1230هـ) المسماة "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" شرح فيها شرح الشيخ العلامة أحمد الدردير العدوي على مختصر العلامة خليل، وضّح فيها ألفاظه و فكك عباراته، و ضمنه تنبيهات مهمة، و نقولا من كتب فروع المالكية، و زاد في نقل الأدلة الشرعية، و أورد آراء أصحاب المذهب.×

«خليل بن إسحاق»

(تـ 776هـ)

 

هو خليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب، ضياء الدين أبو المودّة المصري المعروف بالجندي، أحد مشاهير فقهاء و علماء المالكية.

كان أبوه حنفي المذهب، و سمع هو من ابن عبد الهادي، و قرأ على الرشيدي في العربية و الأصول، و على عبد اللّه المنوفي في فقه المالكية. و كان يلبس زي الجندية و لم يغيره، و كان يرتزق عليها. و اشتهر، و درّس للمالكية بالمدرسة الشيخونية.

له شرح على "مختصر ابن الحاجب" سمّـاه "التوضيح"، و من أشهر مؤلفاته كتاب "المختصر"  في الفقه يعرف بـ "مختصر خليل"، و قد شرحه كثيرون، و "المناسك"، و "مخدرات الفهوم في ما يتعلق بالتراجم و العلوم".

و من شروح "المختصر"، "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" للحطاب، و "شرح الخرشي على مختصر خليل" للخرشي، و "التاج و الإكليل شرح مختصر خليل" للمواق، و "حاشية الدسوق" لمحمد عرفه الدسوقي، و "شرح الزرقاني على مختصر خليل" للزرقاني، و "شرح الميسر" للعلامة محنض بابة بن اعبيد الديماني الشنقيطي.

توفّـي خليل بن إسحاق سنة 776هـ، و قيل سنة 767هـ، و قد رجح صاحب "نيل الابتهاج" القول الأوّل.×

«مواهب الجليل في شرح مختصر خليل»

العلامة محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب (تـ 954هـ)

 

منذ أن ألف الشيخ خليل مختصره الفقهي، و العلماء مقبلون عليه شرحا و تعليقا، توضيحا لألفاظه و فكا لألغازه و رموزه، حتى نيفت شروحه على المائة شرح، إلا أن واسطة عقدها و مصباح نورها هو كتاب "مواهب الجليل لشرح مختصر خليل"، للعلامة الفقيه حامل لواء المذهب في زمانه، المتبحر في أصوله و فروعه، أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المغربي الشهير بالحطاب (ت954هـ).

و قد دعاه إلى وضع هذا الشرح الجليل ما لمسه من عدم استيفاء شروح من تقدمه على "المختصر" حيث بقيت فيه مسائل يعسُر على الطالب فهمها، و غوامض يصعب استيعابها، و لا يتم ذلك إلا بأن يتكلم الشخص على جميع المسائل كي لا يشكل على أحد مسألة إلا وجد التكلم عليها، و الشفاء مما في نفسه منها. و في ذلك قال رحمه الله: "فاستخرت الله تعالى في شرح جميع الكتاب، و التكلم على جميع مسائله مع ذكر ما تحتاج إليه كل مسألة من تقييدات و فروع مناسبة و تتمات مفيدة، من ضبط و غيره، و مع ذكر غالب الأقوال، و عزوها و توجيهها غالبا، و التنبيه على ما في كلام الشروح التي وقفت عليها لهذا الكتاب".

استهل المؤلف كتابه بمقدمة جمة الفوائد، كثيرة المعارف و الفرائد، ذكر فيها جملة من الشروح  لـ "المختصر" الخليلي مع نقده لكل واحد منها، و ما نابه من خلل أو نقص، و هو أحد أسباب وضعه لهذا الشرح. ثم بعد ذلك، ذكر سنده الفقهي و الحديثي إلى الإمام مالك، ثم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى بعض كتب أعلام المالكية ابتداء من "الموطأ" و "المدونة"، مرورا بكتب ابن أبي زيد القيرواني، و ابن أبي زمنين و اللخمي و ابن يونس، و غيرهم، وصولا إلى عصره، مما يمكن اعتباره فهرسة لمروياته.

و بعد هذه المقدمة، شرع في شرح "المختصر"، فبدأه بمقدمة خليل التي ذكر فيها اصطلاحاته في كتابه و رموزه لبعض من ينقل عنهم، لينتقل بعد ذلك إلى صلب "المختصر"، كتابا كتابا، و بابا بابا، حسب ترتيب مؤلفه فيه. و يتسم منهجه في الشرح بعدة خصائص، منها عنايته الفائقة بضبط الألفاظ و الكلمات، و شرحها لغويا و اصطلاحيا و شرعيا، حتى لا يقع أي لبس في قراءتها أو فهمها. و يرجع في كل فن إلى أهله، مما يجعل الكتاب مصدرا مهما للتعريف بالمصطلحات الشرعية. و من مميزاته أيضا التوسع في الشرح، و محاولة استيعاب الأقوال في المسألة من داخل المذهب و خارجه. و حصل له هذا في أوائل الكتاب، خصوصا في "كتاب الطهارة و الصلاة و الحج". ثم بعد ذلك لم يعد يستوعب على طريقته في بداية الكتاب، ربما حسب ما تقتضيه طبيعة الكتب الفقهية التي ترجم لها صاحب "المختصر"؛ فبعضها يتطلب التفصيل أكثر من الآخر. و من سماته أيضا، الاستدلال بالآيات القرآنية و الأحاديث النبوية، و الترجيح بين الأقوال المختلفة حسب ما توصل نظره إليه، واطمأنت نفسه إليه. و إن بقي للموضوع جوانب أخرى متصلة به، بحثها على شكل فوائد أو تنبيهات أو تفريعات، و ذلك بنفْس النّفَس الذي ناقش به المسائل الأصلية في الكتاب، و في قالب لغوي فقهي يتسم بالوضوح و الدقة في التعبير.

و لعل ما يزيد من قيمة هذا الشرح، احتواؤه على مادة علمية غزيرة، من صنوف العلم و ضروب المعرفة، علما أن من هذه المصادر ما هو في عداد ما فقد من تراث المسلمين أو ضاع بعضه، أو أن بعضه لا زال مخطوطا حبيس الخزائن العامة و الخاصة. و من ثم، احتفظ الحطاب في شرحه بنصوص ثمينة منها.

و يمكن تصنيف مصادر الحطاب في "مواهب الجليل" حسب العلوم التالية: كتب اللغة، كتب مصطلح الحديث، كتب التفسير، كتب الأصول، شروح الحديث، كتب العقيدة و علم الكلام، الكتب الفقهية؛ المالكية بالخصوص مع الرجوع أحيانا إلى كتب المذاهب الأخرى.

وإذا كان الكتاب بهذه الأهمية، فلا غرابة أن يتبوأ مكانة كبيرة بين شروح "المختصر" الخليلي، حتى ذكر غير واحد ممن ترجم لصاحبه أنه لم يؤلف مثله على "مختصر خليل"، و أنه استدرك فيه على كبار العلماء كابن الحاجب، و ابن عبد السلام، و ابن عرفة، و غيرهم. و لذلك كان عمدة لمن جاء بعده من شارحي "المختصر" مثل الشيخ عبد الباقي الزرقاني (ت1099هـ)، و الشيخ محمد بن عبد الله الخرشي (ت1101هـ)، و العلامة محمد الأمير (ت1232هـ)، و الشيخ محمد بن أحمد عليش (ت1299هـ)، وغيرهم.

و من أوجه العناية بهذا الكتاب، تصدي علامة فاس محمد بن أحمد ميارة الفاسي (ت1072هـ) لاختصاره في كتابه "زبدة الأوطاب و شفاء العليل في اختصار شرح الحطاب لمختصر الشيخ خليل"، كما جعله السلطان العلامة سيدي محمد بن عبد الله العلوي (ت1204هـ) من بين الكتب التي أوردها في مجموعه الفقهي المسمى"طبق الأرطاب فيما اقتطفناه من مساند الأئمة و كتب مشاهير المالكية و فقه الإمام الحطاب".

طبع مواهب الجليل لأول مرة بمطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1328هـ ـ 1329هـ/1910م ـ 1911م، ثم بالمطبعة الميمنية بمصر أيضا سنة 1331هـ/1912م، ثم توالت طبعاته لكنها لم ترق بعد إلى الخدمة العلمية الرصينة التي يحتاجها هذا الكتاب.×

«العلامة محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب »

(ت 954هـ)

 

هو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن حسين الرعيني، المعروف بالحطاب. و أصله من المغرب، و نسبه من المرابطين، و نسله موجود بمنطقة قرومة بالجزائر.

ولد الشيخ بمكة المكرمة يوم 18 رمضان عام 902هـ، الموافق لسنة 1496م. أخذ الشيخ بعض العلوم على يد والده الشيخ محمد بن عبد الرحمن الرعيني رحمه الله، و بعض أعلام عصره.

كان الشيخ على مذهب الإمام مالك، و له مؤلفات في فروع مذهب الإمام مالك. من مؤلفاته: ‏"متممة الآجرومية" في النحو، و قد نفع الله بها، كما نفع بأصلها، فشرحت و درست و عني بها، و "مواهب الجليل في شرح مختصر الخليل" في فروع المالكية، و هو كتاب يعنى بشرح "مختصر" لفقه المالكية.

توفي الشيخ بطرابلس المغرب عام 954هـ، الموافق لـ 1547م، و بني له مسجد قيل أنه بعد مماته يعرف بـ "مسجد الحطاب".×

«شرح الدردير لمختصر خليل»

الشيخ أحمد الدردير (1127-1201هـ/1715-1786م)

«حاشية على الشرح الكبير لمختصر خليل»

الشيخ محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي (تـ 1230هـ/1815م)

 

إن كتاب "مختصر" العلامة خليل هو من أشهر المختصرات التي وضعت في فروع الفقه المالكي إن لم يكن أشهرها على الإطلاق.

 وقد شرحه الشيخ العلامة أحمد الدردير العدوي من خلال كتابه المسمى "الشرح الكبير لمختصر الشيخ خليل"، و يعد "شرح مختصر خليل" عمدة الفقه المالكي، أورد فيه خلاصة ما ذكره الأجهوري و الزرقاني، و اقتصر فيه على الراجح من الأقوال.

 و حاشية للشيخ محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي (المتوفى سنة 1230هـ) المسماة "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" شرح فيها شرح الشيخ العلامة أحمد الدردير العدوي على "مختصر" العلامة خليل، وضّح فيها ألفاظه و فكك عباراته، و ضمنه تنبيهات مهمة، و نقولا من كتب فروع المالكية، و زاد في نقل الأدلة الشرعية، و أورد آراء أصحاب المذهب.×

«الشيخ أحمد الدردير »

(1127-1201هـ/1715-1786م)

 

أحمد الدردير، أحد أبرز الفقهاء و الأصوليين من أهل السنة و الجماعة، و صوفي مشهور. له تأليفات عديدة في التصوف، و اللغة، و الفقه، و علم الكلام.

هو أحمد بن أحمد بن أبي حامد العَدوي المالكي الأزهري الخَلْوَتِي، الشهير بأحمد الدردير. ولد بقرية بني عدي التي تسكنها قبيلة بني عدي القرشية في أسيوط بصعيد مصر سنة 1127هـ/1715م، وينتهي نسبه إلى عمر بن الخطاب. و قد تلقب بـ "الدردير" لأن قبيلة من العرب نزلت ببني عدي، و كان كبيرهم رجل مبارك من أهل العلم و الفضل يدعى "الدردير"، فلُقِّبَ الشيخ أحمد به تفاؤلا.

حفظ القرآن و جوَّده، و حُبِّب إليه طلب العلم، فقدم الجامع الأزهر و حضر دروس العلماء الأجلاء. و قد أخذ الشيخ الدردير عن جملة من الأعلام المبرزين: سمع الحديث المسلسل بالأَوَّلِية عن الشيخ محمد الدفراوي بشرطه، و أخذ علوم الحديث عن الشيخ أحمد الصَّباغ، و تلقى الفقه على الشيخ علي الصعيدي العَدوي، و لازَمه في كل دروسه حتى ظهرت نجابته و نباهته. و أخذ طريق التصوف و علومه على الشيخ شمس الدين الحفني، و به تخرَّج في طريق القوم، فَتلقَّن الذكر و الطريقة الخلوتية منه حتى صار من أكبر خلفائه، كما حضر دروس الشيخين الملَّوِي و الجَوْهري و غيرهما.

و أخذ عن الشيخ الدردير كثرة من العلماء الأجلاء تخرجوا به و انتفعوا بعلومه، منهم: الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي، و أبو الخيرات مصطفى العقباوي الذي أكمل شرح "أقرب المسالك"، و أبو العباس أحمد بن محمد الصاوي، و أبو الفلاح صالح بن محمد بن صالح السباعي، و أبو الربيع سليمان بن محمد الفيومي.

لقب الدردير بـ "شيخ أهل الإسلام و بركة الأنام" لتفوقه في الفنون العقلية و النقلية. و قد كان صوفيا زاهدا، قوَّالا للحق، زجارا للخلق عن المنكرات و المعاصي، لا يهاب واليًا و لا سلطانًا و لا وجيهًا من الناس. و كان سليم الباطن، مهذب النفس، كريم الأخلاق. و لما توفي الشيخ علي الصعيدي تم تعيينه شيخًا على المالكية، و فقيهًا  و ناظرًا على "وَقْفِ الصعايدة"، بل و شيخًا على "رواق الصعايدة" بالأزهر، فكان يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر كلا من الراعي و الرعية، و لا تأخذه في الله لومة لائم، و له في السعي على الخير يد بيضاء.

و من أشهر مواقفه المشهودة التي تواتر الخبر بها موقفه مع أحد الولاة العثمانيين، و الذي أراد فور تعيينه أن يكون الأزهر هو أول مكان يزوره حتى يستميل المشايخ لعلمه بقدرتهم على تحريك ثورة الجماهير في أي وقت شاءوا و عند حدوث أول مظلمة. فلمَّا دخل و رأى الإمام الدردير جالسًا مادًّا قدميه في الجامع الأزهر و هو يقرأ وردَهُ من القرآن، غضب لأنه لم يقم لاستقباله و الترحيب به. و قام أحد حاشيته بتهدئة خاطره بأن قال له: "إنه مسكين ضعيف العقل و لا يفهم إلا في كتبه يا مولانا الوالي". فأرسل إليه الوالي صرة نقود مع أحد الأرقاء فرفض الشيخ الدردير قبولها، و قال للعبد "قل لسيدك من مدَّ رجليه فلا يمكن له أن يَمُدَّ يديه"، فكان الشيخ قدوة في الحال و المقال.

مؤلفات الشيخ تتضمن: "شرح مختصر خليل" الذي هو عمدة الفقه المالكي، أورد فيه خلاصة ما ذكره الأجهوري و الزرقاني، و اقتصر فيه على الراجح من الأقوال، "أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك" متن في فقه المالكية فرغ من تأليفه سنة 1193هـ، "الشرح الصغير على أقرب المسالك" وصل فيه إلى باب الجناية ثم أكمله تلميذه الشيخ مصطفى العقباوي، و هذا الشرح هو الذي أقرَّه جميع المالكية في الفتوى، و عليه مشهور المذهب المالكي و الأقوال المعتمدة فيه، و اعتمده الشيوخ في تلقين المذهب للطلاب و في الفتاوى على مذهب الإمام مالك، "نظم الخريدة السَّنِيَّة في العقيدة السُّنيَّة" في علم التوحيد على مذهب الأشاعرة وشرحها كذلك، "تحفة الإخوان في آداب أهل العرفان" في التصوف، "شرح على ورد الأذكار للشيخ كريم الدين الخلوتي، "شرح مقدمة نظم التوحيد" للسيد محمد كمال البكري، "رسالة في المعاني والبيان" في علوم البلاغة، رسالة أفرد فيها طريق حفص في القراءات، رسالة في المولد النبوي الشريف، رسالة في شرح قول "الوفائية": "يا مولاي يا واحد يا مولاي يا دائم يا عليُّ يا حكيم"، شرح على رسالة الشيخ البيلي في مسألة "كل صلاة بطلت على الإمام بطلت على المأموم"، شرح على منظومة للشيخ أحمد البيلي في المستثنيات، شرح على رسالة في التوحيد من كلام العلامة الدمرداش، رسالة في الاستعارات الثلاث، شرحٌ على آداب البحث و التأليف، شرحٌ على الشمائل المحمدية و لم يتمه، رسالة في صلوات شريفة اسمها "المورد البارق في الصلاة على أفضل الخلائق"، "التوجه الأَسْنَى بنظم الأسماء الحسنى" و تسمى بـ "منظومة الدردير" أو "منظومة الأسماء الحسنى للدردير"، مجموعٌ ذكر فيه أسانيد الشيوخ الذين أخذ عنهم العلم، شرح على رسالة قاضي مصر عبد الله أفندي المعروف بططرزاده في قوله تعالى {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} الآية، رسالة في متشابهات القرآن، رسالة "تحفة السير و السلوك إلى ملك الملوك"، "العقد الفريد في إيضاح السؤال عن التوحيد"، "متن الخريدة البهية في علم التوحيد".

و توفي الشيخ يوم 6 ربيع الأول سنة 1201 هـ، الموافق 27 ديسمبر سنة 1786م، و صُلي عليه بالجامع الأزهر بمشهد عظيم حافل، و دفن بزاويته التي أنشأها بجوار ضريح يحيى بن عقب، و هو مسجد الآن.×

«الشيخ محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي »

(1230هـ/1815م)

 

محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي (1230هـ / 1815م) من فقهاء المالكية المصريين، عالم مشارك في الفقه و الكلام و النحو و البلاغة و المنطق و الهيئة و الهندسة و التوقيت. ولد بدسوق من قرى مصر، و قدم القاهرة و درس بالأزهر، و توفي بالقاهرة في 21 ربيع الثاني سنة 1230هـ.

من تصانيفه: "حاشية على مغني اللبيب" لابن هشام الأنصاري في النحو، "حاشية على شرح محمد السنوسي على مقدمة أم البراهين" في العقائد، "حاشية على شرح الدردير لمختصر خليل" في فروع الفقه المالكي، "حاشية على شرح سعد الدين التفتازاني على التلخيص" في البلاغة، و "حاشية على شرح البردة" لجلال الدين المحلي.×

«المقدمة الوغليسية على مذهب السادة المالكية»

عبد الرحمن بن أحمد الوغليسي (تـ 786هـ)


 

كتاب "المقدمة الوغليسية على مذهب السادة المالكية" سفر صغير الحجم عظيم النفع، أحد المختصرات في فقه السادة المالكية، المعروفة بـ "المقدمات" الفقهية التي تعتبر، بما فيها من اختصار، نموذجا لبعض المتأخرين عن الاستدلال لما يوردونه في مختصراتهم، و الاقتصار على رؤوس المسائل مجردة من الدلائل، و ذلك من قبيل تسهيل حفظ المتون.

افتتح المؤلف مقدمته بمباحث عقائدية عرّف من خلالها بالإسلام و الإيمان و أركانهما، وأورد حديث جبريل في الباب. ثم نصّ على الباعث من تأليف الكتاب بقوله: "و الغرض من هذا الكتاب التنبيه على ما يلزم العبد فيتنبّه و يسأل، حتى يتحقق و يتعلم ما لابد له منه، و يقف الطالب على ما يكفيه من ذلك من مختصرات العقائد، فيتفهمها و يحصّل معناها". و جاءت المسائل الفقهية في الكتاب في نحو اثنين و عشرين مبحثاً، مهّد لها ببيان أقسام الأحكام التكليفية. و شملت هذه المسائل أحكام الطهارة و الصلاة و الصيام. و خصّص القسم الأخير من الكتاب لمباحث في المواعظ و الرقائق و الزهد، جاءت في نحو أحد عشر مبحثاً.

 أما عن عناية أهل العلم بهذه المقدمة، فتتجلى في ما سجَّلته كتب التراجم و الفهارس من شروح عليها، فتنسب بعضها شرحاً للمؤلف، و شرحاً للشيخ زروق البرنسي (ت899هـ)، و شرحاً للشيخ أبي عبد الله السنوسي (ت895هـ) لم يتمه، و شرحاً لللخمي، و آخر لأبي محمد عبد الكريم بن علي الزواوي، و هذا الشرح الأخير اختصره أبو زيد الصباغ في كتاب سماه "عمدة البيان".

نجد تسميات عديدة لمقدمة الوغليسي، منها: "عمدة البيان في معرفة فروض الأعيان"، و"الأحكام الفقهية"، و"مقدمة في الفقه"، و"مقدمة في العقيدة"، و"الجامعة في الأحكام الفقهية"، وغيرها.×

«الإمام عبد الرحمن بن أحمد الوغليسي البجائي الجزائري »

(تـ 786هـ)

 عمدة أهل زمانه الإمام الفقيه العلامة  سيدي أبي يزيد، عبد الرحمن بن أحمد الوغليسي البجائي الجزائري (تـ 786هـ)، شيخ شيوخ الإمام الثعالبي (تـ 875هـ) صاحب التفسير المشهور "الجواهر الحسان في تفسير القرآن"، و الإمام المجاري(ت862هـ) صاحب "البرنامج المعلوم".×

«شرح العلامة زروق على المقدمة الوغليسية»

الشيخ أحمد زروق (846-899هـ)


 

هذا الكتاب "شرح العلامة زروق على المقدمة الوغليسية" في العقيدة و الفقه و التصوف، أخذها الشارح عن كتب ثلاثة: "مختصر خليل"، و "مختصر ابن الحاجب" (جامع الأمهات)، و "الرسالة" لابن أبي زيد القيرواني، و هي تعتبر إحدى المختصرات في فقه السادة المالكية المعروفة بـ "المقدمات". و "المقدمات الفقهية" تأتي أهميتها من كونها نموذجا لبعض المتأخرين عن الإستدلال لما يوردونه في مختصراتهم، و الإقتصار على رؤوس المسائل مجردة من الدلائل، و ذلك من قبيل حفظ المتون.

يقول الشارح: "فهذا مختصر على "المقدمة الوغليسية"، نذكر فيه ما تيسر من معانيها و مناحيها التقديسية، حسب الوسع و التيسير، ... ملتزما ما يحتاج إليه الفقير الناصح، و عاملا على ما لا بد منه من الأمر الواضح... و تحقيقا ما تحويه من معقول و منقول...".

و من محتويات الكتاب نذكر: ..."قسم العقيدة" و يضم: تعريف الإسلام و الإيمان و الإحسان... الإيمان بالله، الملائكة، بالكتب... الخ، "مسائل من أصول الفقه" و يضم الوضوء، الغسل، التيمم، الصلاة، الصيام، "قسم التصوف" و فيه القلب و الإخلاص...الخ، و أخيرا "متن المقدمة الوغليسية" في العقيدة و الفقه و التصوف"، النص الكامل....

أكثر زروق، في شرحه هذا، من النقل عن الكتب الثلاثة: "مختصر خليل"، و "محتصر ابن الحاجب"، و "الرسالة" للقيرواني، فيبدأ بالنقل من ابن الحاجب، ثم من الرسالة، و ما ذكر من خليل في ذلك الفرع فيتحاشاه عند نقله من ابن الحاجب، و مثله في الرسالة تجنبا للتكرار، و قد يذكر الكلام ملفقا، أي ممن ينقل عنه، فلا يلفق مثلا بين قول خليل و ابن الحاجب، أو الرسالة؛ بل المقصود بالتلفيق هنا التقديم و التأخير، بما يقتضيه المتن المشروح.×

«الشيخ أحمد زروق »

(846-899هـ)

 

ولد بتازة بالمغرب سنة 846هـ، مات أبوه و هو رضيع فنشأ يتيماً، وتولى جده لأمه تربيته، و كانت أمه تُعرف بالزهد و التقوى و الصلاح. "زرّوق" هو لقب جده الذي كان بعينه زرقة، فقالوا: "زرّوق"، و من ثم أطلقت على ذريته من بعده.

كان مالكي المذهب حيث قرأ "رسالة ابن أبي زيد القيرواني" في فقه المالكية على الشيخ عبد الله الفخار و على السبطي بحثاً و تحقيقاً. و كان محباً للتصوف فأخذ الطريقة على يد الشيخ المسلِّك عبد الله المكي و أخذ عن محمد بن القاسم القوري و غيره.

رحل زروق إلى مصر، و التقى مع الشيخ أبي العباس الحضرمي وأخذ عنه الطريقة و صار شيخه في السلوك، و انتسب إليه و لازمه. و اشتغل في مصر بعلوم اللغة العربية و أصول الفقه، فدرس على الجوجري و غيره من العلماء، و قرأ "بلوغ المرام" و درس علم الاصطلاح على الحافظ السخاوي وتأثر به.

و كانت له شهرة كبيرة في أرض مصر، فكان يدرس في الجامع الأزهر، و كان يحضر درسه ما يزيد على 6 آلاف مستمع. و تولى إمامة المالكية، و صار المرجع في المذهب، و انتفع على يديه خلق كثير.

يعتبر الشيخ زرّوق من أهم مراجع علماء المالكية، و تكاد لا تخلو أغلب المصنفات في الفقه المالكي من ذكر فتاواه، و اجتهاداته، و شروحاته. كما أن الشيخ زرّوق من أهم من نظّر و اعتنى بالتصوف، و اجتهد في إبراز كون التصوف من تعاليم الإسلام المهمة، لما يحمله من معاني الإحسان و التزكية. و كان لا يلتفت إلى غلاة المتصوفة و لا يقرّهم على بدعهم و تجاوزاتهم، واتجه إلى تبيين التصوف الحقيقي الّذي أقره علماء السلف، مثل الأئمة مالك و الشافعي و أحمد بن حنبل.

بعد أن اختار ليستقر بمصراتة سنة 886هـ الموافق 1448م أسس زاوية تعرف بـ "زاوية سيدي أحمد زروق"، و كان لهذا أثر كبير على الحياة العلمية و الاجتماعية و التربوية على صعيد العالم الإسلامي.

جمعته مع الشيخ عبد الواحد الدكالي مودّة كبيرة و صحبة، فقد كانا رفيقين في مصر و على تواصل دائم في ليبيا، كما أن الشيخ زرّوق التقى بالشيخ عبد السلام الأسمر و هو صبي، و لمس أنّ للشيخ الأسمر مستقبلا واعدا في العلم و الدعوة.

و للشيخ أحمد زرّوق مخطوطات كثيرة في مختلف مكتبات العالم يرجع إليها الباحثون في شتى مجالات علوم الشريعة و التصوف.

قال العلامة عبد الرؤوف المناوي عنه: "عابد من بحر الغيب يغترف، و عالم بالولاية يتصف، تحلى بعقود القناعة و العفاف، و برع في معرفة الفقه و التصوف و الأصول و الخلاف. خطبته الدنيا فخاطب سواها، و عرضت عليه المناصب فردها و أباها".

و قال المناوي: "كان سريع الحفظ، دائم الإطراق، كثير التأدب مع من تقدمه في السن، محافظاً على الامتثال".

و توفي الشيخ أحمد زرّوق بمدينة مصراتة غرب ليبيا سنة 899هـ.×